كلما اقترب موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية التونسية التي ستجري بين شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني المقبلين، زادت حيرة التونسيين وتراجع يقين الأحزاب، لا سيما أن استطلاعات الرأي التي تحصل كل شهر، والتي كانت نتائجها شبه مستقرة، بدأت تخرج بنتائج مفاجئة. معظم السياسيين، خصوصاً المتضررين منهم، أصبحوا يشكون في صدقية المراكز التي تقوم بهذه الاستطلاعات، وبحياديتها، ويدعون إلى تنظيم هذا القطاع الجديد الذي لا يزال يفتقر للتقنين ويحتاج إلى وضع معايير دقيقة تبعده عن الارتجال أو التوظيف السياسي لصالح هذا الطرف أو ذاك.
ما زاد في تعميق هذه الضبابية، هو الكشف عن مواقع إلكترونية تابعة لشركة إسرائيلية ومدعومة مالياً من بعض الجهات العربية، بحسب ما نشرته صحف محلية. وتتولى هذه المواقع تنظيم حملات ضد بعض الأطراف السياسية التونسية مثل رئيس الحكومة يوسف الشاهد وحكومته أو حركة "النهضة". وهي تسعى من خلال ذلك للتأثير على الرأي العام وتوجيهه وفق أجندات إقليمية محددة. كما يدل ذلك على الاهتمام الإسرائيلي المتزايد بالشأن التونسي، خصوصاً بعد أن أصبح الإسلاميون رقماً سياسياً هاماً جعلهم شركاء في الحكم منذ الثورة حتى الآن، وهم ممن لديهم مواقف حاسمة في ما يتعلق بدعم القضية الفلسطينية. وتربط حركة "النهضة" علاقة وثيقة بالفصائل الفلسطينية ذات الخلفية الإسلامية مثل "حماس" و"الجهاد الإسلامي". وسبق لـ"النهضة" في مرحلة حكم الترويكا أن دعت شخصيات قيادية من "حماس" إلى تونس، مثل إسماعيل هنية وخالد مشعل، وهو ما أثار مخاوف إسرائيل ودفعها نحو ممارسة ضغوط متعددة حتى لا تتحول تونس إلى قاعدة متقدمة في الصراع العربي الإسرائيلي. كما اغتال "الموساد" الإسرائيلي مهندس الطيران التونسي محمد الزواري، الذي أُعلن لاحقاً أنه كان من عناصر "كتائب القسام"، أمام بيته في مدينة صفاقس في 15 ديسمبر/كانون الأول 2016. وفي تلك الجريمة أكثر من رسالة ودلالة.
ولا يقتصر الاهتمام بالانتخابات التونسية على الأطراف السياسية والأمنية والمخابراتية، وإنما يشمل أيضاً بعض رجال الأعمال الذين يهمهم الاستثمار في تونس. ففي حوار أدلى به رجل الأعمال المصري المعروف نجيب ساويرس، إلى إحدى القنوات التلفزيونية المحلية، كشف أن له مشاريع سياحية وصناعية ينوي القيام بها في تونس، لكنه ينتظر نتائج الانتخابات المقبلة حتى يعرف من يفوز فيها. وأضاف أنه في حال انتصار الإسلاميين، فإنه سيتخلى عن القيام بذلك لعدم ثقته في نواياهم وتعهداتهم بحجة تعمّدهم الخلط بين الدين والسياسة، ودعا في المقابل من سماهم بـ"الليبراليين" التونسيين إلى التوحّد وتقديم مصلحة البلاد على صراعهم من أجل الزعامة. كما اتهم في السياق نفسه التيار الإسلامي في ليبيا بكونه المسؤول عن إفساد المسار الانتقالي والدفع بالبلاد نحو العنف.
ومن اللافت للنظر أن بعض المؤسسات الأجنبية أصبحت تقوم باستطلاعات لمعرفة اتجاهات الرأي العام في تونس أو ربما التأثير فيه، خدمة لهذه الدولة أو تلك، أو على الأقل الاعتماد على النتائج كخطوة استباقية قبل وضع سياسات جديدة موجّهة نحو تونس. وأفضت غالبية عمليات سبر الآراء التي تمت أخيراً، إلى أن حركة "النهضة" قد تخسر المزيد من جمهورها الانتخابي، خصوصاً بعد أن تمكّنت الهيئة العليا لمراقبة الانتخابات من تسجيل عدد كبير من الناخبين الجدد معظمهم من الشباب والنساء، والذين يتخطى عددهم المليون ناخب. لكن هذا التراجع في حجم الثقة لا يتعلق بالإسلاميين فقط، وإنما يشمل كل الطبقة السياسية، وهو ناتج من عزوف التونسيين عن الأحزاب السياسية من دون استثناء.
وعلى الرغم من الفوضى التي تسود مجال قياس اتجاهات الرأي العام في تونس، والغموض الذي يحوم منذ سنوات حول بعض المؤسسات التي تقف وراءها، إلا أنها تحوّلت تدريجياً إلى أداة مصاحبة للعملية السياسية لا يمكن التخلي عنها. فكل الأحزاب والشخصيات التي رشحت نفسها لخوض الانتخابات أو تفكر في ذلك، تنتظر نتائج استطلاعات الرأي لتوظيف بعض مؤشراتها، والتعريف بنفسها وبمشاريعها. وتحوّلت الاستطلاعات إلى جزء من العملية الديمقراطية التونسية بعد أن كانت ممنوعة قبل الثورة. والمؤكد أن المؤشرات بدأت تدل على أن الانتخابات المقبلة في تونس ستكون صعبة ومثيرة وقد تخفي مفاجآت ليس يسيراً التكهن بحجمها وتداعياتها على المرحلة المقبلة.