استراتيجيّة دحر الثورة
منذ بداية ما صار يعرف بالمعضلة السورية، وضع النظام حربه ضد شعبه في حاضنة استراتيجية، تقوم على شق مواطنيه إلى معسكرين متعاديين: أحدهما صديق، والآخر عدو، وبنى رهاناته على تخيير العدو، أَي أَغلبية الشعب الساحقة، بين قبول الأسد والرضوخ رضوخاً مطلقاً، ولا شبهة فيه، للنظام، أَو قضاء جيش السلطة عليه، انطلاقاً من مبدأ يترك للشعب حرية الاختيار بين أَمرين: الاستسلام والرضوخ، أو الموت الجماعي، تطبيقاً لمعادلة متناقضة، حدّها الأول خروج النظام على أَي عُرف أَو قانون أَو تقليد وطني يجمعه بالسوريين من جهة، والثاني رهانه على أَن خوف السوريين على وطنهم حقيقي، إلى درجة تحول بينهم وبين مقاومته، علماً أَن هذه المعادلة اعتمدت طوال فترة الحكم الأَسدي، والذي عمل، دوماً، على وضع سوريا قرب حافة الهاوية، وربط بقاءَها بانصياع شعبها انصياعاً مطلقاً له، وبحرصه على وحدتها وبقائها.
طبّق الأَسد هذه المعادلة، فبدأ باستخدام أَقصى قدر من العنف، كان في وسعه استخدامه لإقناع المجتمع السوري بالتخلي عن الاحتجاج على سياساته، وأَطلق يد جيشه وأَجهزة قمعه وشبيحته ضد الناس، تطبيقاً لخطة حربية، أُعدت، بصورة مسبقة، تحت إِشرافٍ رئاسي، قامت على تقطيع البلاد إلى مربعات أمنية وعسكرية، وتوزيع ما يكفي من قوىً مسلحة لمواجهة "العدو" في كل مربع، ولمنع ساكنيه من النزول إِلى الشارع، وإِجبارهم على البقاء حبيسي منازلهم: مشتتين ومذعورين، وداخل قبضة حديديةٍ، منتشرة في كل مكان، ومستعدة لتدخل استباقي حاسم ضد أَي كان. هناك أَمثلة تظهر حجم هذا الانتشار وكثافته، فما أَن هتف شخص في مسجد بدير الزور ضد النظام، حتى اقتحم قرابة مئتي شبيح المكان وأَوسعوا المصلين ضرباً، واعتقلوا عشرات منهم، بعدما قتلوا الشخص الذي أَطلق الهتاف. كما حدث شيء مماثل في حماه، فما أَن نزل اثنا عشر شاباً إِلى الشارع، حتى واجههم مئات الشبيحة، وبطشوا بهم، وقتلوهم، وجرحوهم، واعتقلوهم.
هذه الاستراتيجية حالت دون قبول مطالب الشعب السلمية بالحرية والإصلاح، وكشفت هوية السلطة، كجهة ترى في سورية بلاداً معاديةً ثارت عليها، لا علاج لثورتها غير العنف وإِغلاق أَبواب السياسة وحلولها التوافقية والوطنية، فلا عجب إِن قادت السوريين إِلى وضع بدا، منذ اللحظة الأولى، أَنه سيؤول إِلى كارثة وطنيةٍ عامة، سواءً انتهى بهزيمة النظام، أو بانتصاره، وإن أحداً لن ينجو من نتائجه المأسوية الشاملة. ومع أَن عداء السوريين بعضهم لبعض لم يذهب إِلى الحد الذي أَراده النظام له، فإن نتائج الحرب الرسمية التي شنّها عليهم كانت كارثيةً إِلى درجةٍ روّعت البشرية أَكثر من أَية حرب أخرى في العصور القديمة والحديثة.
واليوم، والحرب تصل إِلى المنطقة الساحلية، حيث سيستكمل بدمارها خراب سوريا وإِبادة قسم كبير من شعبها، تمسّ حاجتنا إِلى ما لا نملكه إِلى اليوم: استراتيجية وطنية تبطل استراتيجية السلطة، في صياغتها الدليل على أَهلية المعارضة السياسية، وجدارتها الوطنية، والبداية الضرورية لخروج وطننا وشعبنا من مأزق قاتل، لن يخرجا منه من دون رؤيةٍ عمليةٍ، من شأنها رصّ صفوف الشعب المشتّتة، والمعارضة المتناحرة، وتغيير علاقات القوى بطريقة جدية يمكن معها إِنقاذ البلاد والعباد وتحقيق الحرية والكرامة للشعب، جميع الشعب، بعد القضاء على الأسد وتقويض النظام، وإِلا صار من الصعب جداً أن تقوم لبلادنا قائمة في أَي مدى منظور، وساقنا مأزقنا إِلى الهدف الذي حدّدته الأسدية لمعركتها ضدنا، وعبّرت عنه، من خلال شعارين طرحتهما قبل انفجار الثورة بوقت طويل، قالت في أولهما: الأسد أو لا أحد ـ القضاء على الشعب ـ، وفي ثانيهما: الأسد أو نحرق البلد ـ القضاء على الوطن ـ!