جاءت خسارة رئيس الوزراء الإيطالي، ماتيو رينزي، للاستفتاء الإصلاحي على الدستور لتزيد من المحن التي يعيشها الاتحاد الأوروبي، لكون الأزمة أصبحت واقعاً بعد التصويت بـ"لا" للتقشف والليبرالية الجديدة مع حكومة رينزي. ومن شأن هذه النتيجة أن تتسبب في تداعيات اقتصادية خطيرة على دول منطقة اليورو، وسياسية من خلال توظيف الأحزاب اليمينية الشعبوية في أوروبا نتائجه لصالحها. في هذا الوقت تضغط بريطانيا على التكتل لإيجاد صيغة تخدم مصالحها المستقبلية خارجه، على الرغم من أن الخروج الفعلي لن يحصل قبل عامين على الأقل. وفي ظل هذا الواقع بات المطلوب مكاشفة الرأي العام ومراجعة سياسة التقشف والخيارات النقدية من أجل مصالحة المواطن الأوروبي مع قياداته السياسية التي تعيش صراعاً وجودياً ضد الشعبويين.
هذه المستجدات بدأت تضع أوروبا أمام مرحلة انحدار فعلي، بحسب ما يرى العديد من المراقبين، مع تأكيدهم أنه لا يمكن النظر إلى الاستفتاء الإيطالي على أنه انتصار للشعبويين وإشارة ضد أوروبا، برغم أن الأحزاب اليمينية الشعبوية، ومنها حزب البديل من أجل ألمانيا، أعرب عن سعادته لنتائج الاستفتاء وفشل خطة الإصلاح الإيطالية التي تعبّر عن فشل الاتحاد. وبحسب "البديل"، فإن من شأن الخسارة أن تهدد عضوية إيطاليا في التكتل الأوروبي. وفي ألمانيا، بات واضحاً القلق الذي يسود الأوساط السياسية والاقتصادية من الخسائر المالية التي ستطاول مجدداً دول جنوب أوروبا، ومنها اليونان وإسبانيا وإيطاليا نفسها، مع تراجع الاستثمارات في واحدة من أقوى اقتصادات دول الاتحاد وزيادة الدين العام فيها، وبالتالي خطر أن تكون روما على مقربة من أزمة كتلك التي وقعت نهاية العام 2011، وذلك بعدما عمد أخيراً عدد كبير من المستثمرين الأجانب إلى سحب أموالهم من البلاد، نتيجة عدم قدرة البنوك على استرداد أكثر من 40 في المائة من القروض.
من هنا يشدّد خبراء اقتصاد أوروبيون على ضرورة اتخاذ الخطوات اللازمة لضمان حسن سير الاستقرار، كما وعمليات الإنفاق، في ظل متطلبات أسواق المال لتحفيز النمو، ومنها مساعدة البنك الأوروبي لإيطاليا مع بلوغ حجم العجز في الموازنة 130 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وتبديد هواجس العدالة الاجتماعية لدى المواطنين، علماً أنها باتت تؤرق الساسة، وتهدد مصيرهم السياسي، ليس في إيطاليا فقط وإنما في أوروبا، وهو ما لا يغيب عن اهتمام المسؤولين الذي يدعون إلى التهدئة وإطلاق التطمينات، وكان آخرها ما جاء على لسان وزير المالية الألماني، فولفغانغ شويبله، خلال اجتماع وزراء مالية منطقة اليورو في بروكسل، إذ قال إنه "لا يوجد حديث عن أزمة يورو، ولا داعي للذعر"، وهو ما يخالف واقع القلق الذي يعيشه الزعماء خوفاً من أزمة جديدة لليورو. وفي هذا المجال، يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة روما، جيوفاني أورسيني، في حديث صحافي، "لو صوّت الناخبون في الاستفتاء بنعم للإصلاح الدستوري لكان الوضع أسهل، وسينعكس على حل المشاكل بين إيطاليا والاتحاد الأوروبي"، وهي التي لن تظهر، برأيه، اليوم أو الشهر المقبل، إنما خلال عام أو أكثر، وذلك عندما يخفض أو يتوقف البنك المركزي الأوروبي عن الشراء الشامل للسندات الحكومية، خصوصاً أن رئيسه ماريو دراغي أعلن أخيراً أن البنك المركزي الأوروبي سيستمر بعمليات التسيير إنما بوتيرة أخف، وإيطاليا ليست مستعدة بعد للقيام بهذا النوع من العمليات.
ووفقاً للمراقبين، فإنه بات من المفروض أن تكون هناك خطة طوارئ من الحكومة الإيطالية الجديدة، وبالتنسيق مع بروكسل، وخصوصاً أنه في الأوقات غير المستقرة سياسياً تبقى مناورات الإنقاذ الاقتصادي أكثر صعوبة، في ظل تشكل جبهة واسعة من الشعبويين، بقيادة الحركة الاحتجاجية خمس نجوم، والتي تشجع على الخروج من اليورو واعتماد سياسة أخرى للجوء، مع تزايد أعداد اللاجئين الذين يصلون إلى صقلية من أفريقيا، ودعوات من إيطاليا للمزيد من التضامن معها من بقية الدول الأوروبية. في المقابل، اعتبر خبراء في الشؤون السياسية الأوروبية أن بروز مواقف مشجعة من وزراء المالية الأوروبيين، في بروكسل بعد الاستفتاء الإيطالي، مؤشر إيجابي، ومنها الخطوات التي تقضي بتخفيف الضغط عن الموازنات الوطنية للحكومات الأوروبية، بما يسمح لها بهامش للنفقات، هذا فضلاً عن القرار المتعلق بالتخفيف من ديون اليونان، وربما إعادة جدولتها، مع التدخل في الدول التي تعاني من أزمات. لكن في المقابل، دق هؤلاء ناقوس الخطر من ظاهرة الاستفتاءات، التي لا تعدو كونها مؤشراً على بداية لتفكك الاتحاد من دون أن تكسب ثقة المواطنين من الجهة الأخرى. واعتبروا أن تداعيات ذلك ستتخطى حدود تلك الدول، وهو ما عبّر عنه حزب الخضر الألماني، بأن من لا يريد الخير لأوروبا سيحاول الاستفادة من هذا الإخفاق. ويصف الخبراء ما تعاني منه الأحزاب التقليدية بـ"الكارثة" على الاتحاد الأوروبي، خصوصاً أن العام 2017 سيكون عام الاستحقاقات البرلمانية والرئاسية، التي ستكون مصيرية لكثير من الأحزاب في أوروبا.
وفي هذا السياق، يلفت الخبراء إلى أن الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، آثر عدم الترشح، ليس بسبب التواضع والشعور بالمواطنة، بل بسبب تدهور شعبيته، وأن تراجع الاشتراكيين الأوروبيين قد يؤدي إلى أزمة في أوروبا. والأجدى أن يكون السؤال، ما إذا كان مرشح اليمين المحافظ، فرانسوا فيون، مناسباً ضد اليمين المتطرف، ومرشحته مارين لوبان، بعد ما شهدته فرنسا أخيراً من أحداث دموية، وفي ظل أزمة دولة الرفاه الفرنسية، وبعدما بات اليمين المتطرف الفرنسي يتفاخر بأنه ينافس الأحزاب "الكبيرة". يأتي ذلك في وقت يعتبر فيه الكثيرون أن فرنسا خسرت سيادتها من قبل الاتحاد الأوروبي، فيما ترددت معلومات عن نية فيون بتنظيم استفتاء للانفصال، وهذا من شأنه أن يجعل شريكاً كبيراً، مثل فرنسا، يرسم نهاية للاتحاد الأوروبي. كل ذلك يضع الديمقراطية الاجتماعية أمام مفترق طرق في الحياة السياسية في أوروبا، التي باتت مهددة بأزمة وجودية، رغم أن بعض اليسار لا زال يتمتع بحضور وحركة في صفوف النقابات.
ولا يختلف الوضع كثيراً في النمسا، على الرغم من تنفس النمساويين الصعداء بعد فوز ألكسندر فون دير بيلين، المرشح المدعوم من حزب الخضر، على المرشح اليميني نوربرت هوفر، المنتمي إلى معسكر المتشككين بأوروبا، لأن انعدام الثقة لا يزال عميقاً، خصوصاً مع المعاناة الاجتماعية وانخفاض النمو الاقتصادي وارتفاع الدين العام وزيادة نسبة البطالة. ويشير الخبراء إلى أن غياب المفهوم الليبرالي لدى المعارضين يهدد حقوق الأقليات، وهو ما كان يراعيه دائماً الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن المشاحنات المستمرة داخل أحزاب الائتلاف وبين بعضها البعض، إذ إن على الحكومة الحالية أن تمارس مهامها حتى موعد الانتخابات البرلمانية المقررة في العام 2018. وما يزيد من مشاكل وهموم بروكسل تبعات الاستفتاء البريطاني، مع صعوبة التعامل مع الإجراءات القانونية والاتفاق على مرحلة انتقالية، من دون السماح لبريطانيا بأن توظف مفاوضات خروجها بهدف تحقيق أكبر قدر من المكاسب المالية من التكتل الأوروبي. أما في هولندا، ودائماً حسب الخبراء، فإن السياسي اليميني الشعبوي، غيرت فيلدرز، الناقد للإسلام والمستمر في بث خطاب الكراهية والتحريض ضد الأجانب واللاجئين، يتوقع أن يجني ثمار تصريحاته وعدائه لهؤلاء في الانتخابات المقررة في مارس/ آذار المقبل، وأن يكسب تعاطفاً أكبر من المعادين للهجرة، بعد أن أدين أخيراً بالتحريض على الكراهية ضد المغاربة في خطاب له في العام 2014، وبالتالي فإن الأمر سيزداد صعوبة في التعاطي مع هولندا من قبل الاتحاد الأوروبي. وما يثير قلق التكتل أيضاً مصارعة اليونان لجبال الديون. والمطروح حالياً ما إذا كان البنك الدولي سيستمر في المشاركة في برنامج القرض الثالث لتلبية متطلبات الإصلاح، في ظل خطر أزمة اللاجئين التي تعاني منها اليونان، بفعل الاكتظاظ الموجود في مخيماتها، وهذا ما يتعب كل أوروبا، ويسمح لليمين في أثينا، بقيادة حزب الفجر الذهبي، الذي يصفه كثيرون بالنازية الجديدة، بعد أن أصبح ثالث أقوى كتلة في البرلمان، بالتمدد على حساب الأحزاب البرجوازية التي قادت البلاد إلى مزيد من الأزمات.
ويكافح الاتحاد مع بولندا من أجل سيادة القانون، إذ يعيش الطرفان مرحلة من الصراع، مع اتهام المفوضية الأوروبية للحكومة البولندية بتعيين قضاة المحكمة الدستورية بطريقة غير قانونية للحد من استقلالية المحكمة وتجاهل قراراتها، وهذا ما يمنع أي وجود أو مؤشر للحل في الأفق. ويقول الخبراء إنه بات من الممكن أن تحرم بولندا من حق التصويت في الاتحاد الأوروبي، مع تأكيدهم أن هكذا قرار يحتاج إلى إجماع من المجلس الأوروبي، من دون أن يغفلوا الإشارة إلى التراكمات السلبية بين الجانبين، مع تراجع بولندا عن التزامها بحصتها من اللاجئين بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة، بعد أن وعدت الحكومة السابقة باستقبال 6500 لاجئ من دول الاتحاد الأوروبي. وفي المجر، فإن رئيس الوزراء، فيكتور أوربان، الذي يرى نفسه ناطقاً باسم دول "فيسغراد"، التي تضم إضافة إلى المجر كلاً من بولندا وسلوفاكيا وتشيكيا، رفع الراية الحمراء للمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، بخصوص أزمة اللاجئين، ضارباً عرض الحائط بالسياسة التي استقر عليها الاتحاد الأوروبي في أكتوبر/ تشرين الأول العام 2015 مع استفحال أزمة اللجوء، وواصل بناء السياج الحدودي بطول 175 كيلومتراً، ناهيك عن أنه اتخذ مساراً موالياً لروسيا، وهذا مثير للقلق ومصدر إزعاج لبروكسل. في المقابل، يرى الكثير من المحللين أن فوز فون دير بيلين في النمسا له دلالات مريحة في هذه الفترة الصعبة لأوروبا، وربما تكون إشارة إيجابية من فيينا للانتخابات المقبلة في فرنسا وهولندا في وجه أعداء الاتحاد الأوروبي أمثال غيرت فيلدرز ومارين لوبان.