التصنيع هو الطريق الصلب لأي مشروع تنموي، فالتصنيع يعني القيمة المضافة، ولذلك اعتنت النظم الاقتصادية المختلفة بالتصنيع، سواء كانت اشتراكية أو رأسمالية، أو مختلطة. والتخطيط للتصنيع ليس قرارًا إداريًا منفردًا من شخص أو مؤسسة، بل هو نتاج استراتيجية تراعي أبعادًا مختلفة، منها ما هو اقتصادي أو مالي أو بيئي، أو استهداف الحفاظ على الأمن القومي.
لكن يلاحظ أن قطاع الصناعة في مصر بلا راع، ولذلك مساهمته محدودة في الناتج المحلي الإجمالي لا تزيد عن 10.5%، حسب بيانات عام 2018/2019، بينما الصناعات الاستخراجية (لقطاعي النفط والغاز) تساهم بنحو 7.5%، وفق بيانات التقرير المالي لوزارة المالية عن ديسمبر 2019.
ولا توجد في مصر استراتيجية تستهدف تشجيع الصناعات التحويلية ذات القيمة المضافة العالمية، فمساهمة هذه الصناعات في الناتج المحلي، على الرغم من ضعفها، تشمل مساهمة نشاط تكرير البترول.
والتجارب الناجحة للتنمية ركزت على التخطيط للتصنيع، سواء تجاه المستثمرين المحليين أو الأجانب، وقدمت لهم الحوافز والضمانات التي تمكنهم من زيادة التراكم الرأسمالي، أو استجلاب وتوطين التكنولوجيا، وهو ما نلمسه من تجارب كوريا الجنوبية أو ماليزيا أو تركيا، وإلى جوار ذلك الصين، التي تعتبر أكبر مصنع في العالم.
ولم يتحقق التقدم الاقتصادي لهذه الدول التي كانت تصنف من قبل على أنها دول متخلفة، إلا عن طريق التصنيع، والانتقال التدريجي من الصناعات الأولية إلى الصناعات التجميعية، ثم الصناعات الإلكترونية، ثم إنتاج المعرفة أو التكنولوجيا.
وحتى لا يكون الحديث عن غياب استراتيجية للتصنيع في مصر من فراغ، فلننظر إلى الصادرات السلعية المصرية، والتي تصل إلى 28.5 مليار دولار، بنهاية عام 2018/2019، حسب بيانات ميزان المدفوعات الصادر عن البنك المركزي المصري.
وحتى لو اعتبرنا أن الصادرات المصرية السلعية كلها صادرات صناعية، ولا تتضمن صادرات النفط والغاز الطبيعي، فهي شديدة التواضع إذا ما قورنت بصادرات لدول أخرى، مثل تركيا التي تبلغ صادراتها السلعية نحو 170 مليار دولار، وحتى بنغلاديش نجد أن صادراتها السلعية في عام 2018 بلغت 39.2 مليار دولار، حسب أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي، أعلى من صادرات مصر السلعية بنحو ما يزيد عن 10 مليارات دولار.
تدهور صناعة الأسمنت
التدهور لا يعني هدم المصانع، لكن التدهور في واقع الصناعة المصرية، حدث من خلال تراكم الإنتاج، وزيادة الفائض الإنتاجي بكميات تسببت في وقوع خسائر كبيرة للشركات المنتجة، فمؤخرًا قال رئيس شركة أسمنت السويس المصرية، خوسيه ماريا ماجرينا، إن خسائر شركته في 2019 بلغت 1.17 مليار جنيه، وإن هذه الخسائر ناتجة عن تراجع الطلب بنسبة 5% في عام 2019، حيث بلغ الطلب نحو 48 مليون طن، وهناك فوائض إنتاجية في السوق بلغت نحو 35 مليون طن من الأسمنت، وأضاف ماجرينا أن التصدير لم يعد مخرجًا لحل أزمة شركات الأسمنت في مصر.
وأرجع ماجرينا فقدان مصر ميزة نسبية في سوق تصدير الأسمنت، إلى الضغوط التضخمية التي شهدها القطاع، بسبب رفع أسعار الوقود في الفترة الماضية، فالأسواق المنافسة إقليميًا تبيع الأسمنت أقل من السلع المصرية بنحو 12 دولاراً للطن، بسبب المزايا السعرية التي تحصل عليها هذه الأسواق مقارنة بواقع السوق المصري.
شركة أسمنت السويس ليست الوحيدة التي تعاني الخسائر وتراكم فوائض الإنتاج، ولكنها حالة عامة، جعلت بعض الشركات تتخذ قرارًا بوقف الإنتاج، كما حدث في شركة أسمنت طرة.. ولا تعد هذه الأزمة معبرة عن فترة زمنية محدودة، ولكنها مستمرة منذ سنوات، وذلك بسبب غياب التخطيط السليم لقطاع الصناعة بشكل عام، ولقطاع الأسمنت بشكل خاص.
فكون الاقتصاد يتبع قواعد اقتصاديات السوق، فهذا يعني أن ترفع الدولة يدها عن الأسواق، وتفتقد لتنفيذ سياسات ناجعة، أو استراتيجية تتناسب ومتطلبات التنمية. ففي ظل اقتصاديات السوق، هناك ما يعرف بالتخطيط التأشيري، والذي يدير الموارد الاقتصادية (الطبيعية، والبشرية، والمالية) بحيث لا يعاني النشاط الاقتصادي من الركود أو التكدس في قطاعات معينة.
وفي الوقت الذي يمر فيه الاقتصاد المصري بحالة من الركود، للقطاع الخاص غير النفطي منذ سنوات، وجدنا الجيش يفتتح مصنعًا جديدًا للأسمنت في بني سويف باستثمارات تزيد على مليار دولار، في الوقت الذي يتم فيه تصفية الشركة القومية للأسمنت، وهي شركة قطاع أعمال عام، ويتم تسريح نحو 2500 عامل، بحجة الخسائر التي تعاني منها الشركة.
إن التفكير الاقتصادي السليم، في حالة الخسائر التي تزعم الحكومة أن الشركة القومية للأسمنت قد حققتها، أن تنصرف استثمارات الجيش إلى قطاعات أخرى تعاني عجزًا، مثل القطاع الزراعي، أو صناعات أخرى يتم الاعتماد على استيرادها من الخارج.
وليس في قطاع الأسمنت ما يغري، على الصعيد القومي، فهي صناعة ملوثة للبيئة، وكثيفة استخدام الطاقة، وبالتالي كان يكفي أن هناك استثمارات معطلة داخل قطاع الأسمنت، بغض النظر عن كونها مملوكة للقطاع العام، أو القطاع الخاص، فكلها موارد تخص الاقتصاد المصري، وإن كان معظمها في قطاع الأسمنت مملوكة للقطاع الخاص الأجنبي، ولكن لا ننسى أن هذه الشركات الأجنبية لديها قروض حصلت عليها من البنوك المصرية، ولديها التزامات مالية.
ولكن التخطيط السيئ، الذي يعتمد على محاولات غلق الحلقة الاقتصادية لمصر على طرف واحد، وهو الجيش، أدى إلى هذه الحالة من سوء التخطيط في قطاع الأسمنت، وفي باقي القطاعات، فلكي يكون للجيش وضع احتكاري في تنفيذ مشروعات الطرق والعقارات التي ينفذها، ينشئ مصنعًا جديدًا للأسمنت، في حين يعاني السوق من فائض، يمثل مشكلة بلا حل منذ عدة سنوات.
البحث عن مخرج
إدارة أجندة التنمية في ضوء المنهج الرقمي، واستبعاد المنهج التنموي، كارثة. فاتجاه الحكومة بالتركيز على العقارات وإنشاء طرق لا تحتاجها مصر الآن، أو تركيز كافة الاستثمارات على العاصمة الإدارية الجديدة، يحتاج إلى مراجعة، ووقفة لتصحيح بوصلة التنمية.
فحالة الركود التي يعانيها القطاع الخاص غير النفطي في مصر، مآلها شديد السلبية، وهو ما نلمسه في الارتفاع المستمر في فاتورة الواردات السلعية، التي وصلت إلى نحو 66.5 مليار دولار في عام 2018/2019، وكذلك اتساع سوق العمل غير المنظم، والذي يعتمد على فرص عمل هامشية وهشة.
كما أن قطاع الصناعة بحاجة إلى رعاية حكومية، من خلال مبادرات لتمويل الصناعة، وتسهيل الحصول على الأراضي، والأهم من ذلك كله، وجود نية حقيقية لإصلاح التعليم في مصر، لتحقيق هدفين: الأول تخريج اليد العاملة المدربة والماهرة، والثاني وجود رابطة وعلاقة حقيقية بين الجامعات والصناعة، لكي يتم تطوير المنتجات من خلال بيوت الخبرة المتمثلة في الجامعة، فلن تتقدم الصناعة في مصر، طالما بقيت أسيرة استيراد خطوط الإنتاج وقطع الغيار، أو استيراد التكنولوجيا.
وثمة أمر شديد الأهمية، وهو ألا تنفرد الحكومة بالتخطيط للصناعة، فلا بد من مشاركة مجتمع الأعمال والمجتمع الأهلي، لكي تكون استراتيجية التنمية معبرة عن احتياجات وآمال حقيقية للمجتمع المصري.