ارتياد الموسيقى الكلاسيكية: خفّة الصمت التي لا تُحتمل

23 فبراير 2020
عند بلوغه الثلاثين توقف غولد عن تقديم العروض الحية
+ الخط -
لمن لم يسمع من قبل بالموسيقي الكندي غلين غولد (1932 - 1982)، هو عبقرية فذّة من خوالد القرن العشرين، عازف بيانو طوّر آلته بقدر ما طوّرها عباقرة آخرون سابقون، كـ موتزارت وبيتهوفن وليْست. الحفلات التي أحياها كانت أحداثاً جماهيرية، وأنباءً عالمية تُبثّ على أثير كل موجة وتُنشَر في صدر كل صحيفة. إلا أنه وبشكل مفاجئ، قرّر غولد اعتزال الأداء أمام الجمهور، والاعتكاف في الاستوديو، والاكتفاء بتسجيل عزفه في عُزلة تامة حتى آخر حياته.

يقول غولد: "على الرغم من كون أداء الموسيقى أمام جمهور حيّ مدعاة إلى الاشمئزاز، بيد أنّي كنت مدركاً أنه السبيل الأيسر لكي أجني بعض المال، بذلك، وحين كنت لم أزل بعد في أول العشرين من عمري، ارتأيتُ أن أستمر في تقديم الحفلات حتى بلوغي سن الثلاثين ثم أعتزل". في موقع آخر، يشرح غولد مباشرةً وباقتضاب: "لأجل الصدق أقول، أكاد لا أذكر أنني شعرت بالراحة يوماً أثناء تقديم أيّ من حفلاتي، وذلك بسبب حضور جمهور المستمعين فيها".

موقف غولد هذا، لا يُخفي تطرفاً ولا يخلو من مغالاة، هو لسانُ حال صاحبه الذي عُرفت عنه غرابة أطواره. من جهة أخرى، تعكس آراء غولد أوجه التناقض التي تُميّز التجربة الموسيقية، الكلاسيكية على وجه الخصوص، سواءً منظورَ المؤدي من زاوية، أو جمْع المُستمعين في الصالة من الزاوية المقابلة. واحدٌ من تلك الأوجه هو ثنائية العزلة والتركيز الذهني الذي يقتضيه كلٌّ من نشاط العزف والاستماع وما يتطلّبه من صمت مطبق وهدوء تام، ثم طبيعة الحدث الاجتماعية، وما يترتب عليها بشكل عام من هرج ومرج.

وجه آخر، لعلّه ثقافي، يتمثل في الصفة التي باتت تُنسب إلى تقاليد أداء وحضور حفلات الموسيقى الكلاسيكية، زمنَ ما بعد الحداثة. ففي عصر يتّسم رسمياً بعلمانية المجتمعات، الغربية خصوصاً، صار للموسيقى الكلاسيكية سمة القداسة. بالنسبة إلى شريحة عريضة غير مؤمنة، لم تعد لتؤمّ الكنائس أو تُحيي المناسبات الدينية الجماعية، باتت طقوس تقديمها والاستماع إليها في المسارح والقاعات تحلّ محلّ مراسم القداديس والصلوات خلال الحقبات السابقة.

بيد أن ذلك، وهو وجه آخر للتناقض، لا ينفي واقع أن الإمتاع والترفيه يظلان من صلب وظائف الفن بشكل عام، والسمعي بشكل خاص، والموسيقى الكلاسيكية من بين أجناسه؛ وهذا يفترض راحة المُرفّه عنهم وشعورهم بالاسترخاء والحرية في ما شاؤوا أن يفعلوا وأن يتصرّفوا، فرادى كانوا أم جماعة. فلمَ، إذن، غلْق الهواتف النقّالة قبل اعتلاء الفرقة الخشبة؟ ولمَ حُرمة التصفيق بين حركات تتألف منها المقطوعات الموسيقية، ووجوبُ انتظار انتهائها بالكامل. لم الحرج؟ إزاء الحديث أثناء سير العزف، وكبت السعال وكبح العطاس والقهقهة، وغيرها من أصوات تصدر عن البشر حين تجتمع، بقصدٍ منهم أم من دونه.

تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن الحال لم تكن كذلك من قبل، لم تكن لعبقرية كـ موتزارت (1756-1791) أن تحلم بمستمعين صامتين، قابعين في حال تأمل داخلية وسكينة جماعية، لا يصدر عنهم صوت ولا ينبس أحدهم ببنت شفة أثناء عرض أحد أوبراته أو عزف واحدة من سيمفونيّاته. فالناس وقتها، كانوا يحتسون الشراب خلال المشاهدة والسماع، وكانوا يتحدثون في ما بينهم، ويُحضرون معهم طيورهم الأليفة والكاسرة من صقور وببغاوات، إن أعجبهم مقطع طالبوا بإعادة عزفه، وإن لم يعجبهم مقطعٌ، نال المؤلف نصيبه من التحقير والتوبيخ.

التبدّل بدأ مع تبوّء الموسيقى منزلة واحدٍ من فروع الأدب والثقافة الرفيعة، الحاضنة لذائقة طبقة برجوازية صاعدة في أوروبا القرن التاسع عشر، تؤمن بنهج الحداثة والعلمانية ومُخرجات عصر التنوير، لجهة قدسيّة العلم والثقافة في عصرٍ بات قائماً على فكرة الانسان الحر والمُفكّر.

لعل مؤلّف الأوبرا الألماني ريتشارد فاغنر (1813 - 1883)، كان أول من أرسى تقاليد ارتياد الحفلات الموسيقية وكيفية التصرف خلالها، من عدم التصفيق إلا عقب انتهاء الحفل، والصمت والتركيز أثناء مشاهدة العرض. تبعه بعد ذلك من عاصره وخلفه من مؤلفين ومؤيدين، فيُذكر أن المؤلف وقائد الأوركسترا غوستاف مالر (1860-1911)، كان قد أصرّ على عدم جواز التصفيق بالمطلق أثناء أداء مقطوعته الشهيرة "أغاني موت الأطفال" نظراً إلى طبيعة العمل المأسوية والحزينة.

بالقفز إلى العصر الحديث، غيّرت التكنولوجيا بشكل جذري من طبيعة التجربة الموسيقية بالنسبة إلى كل من العارف المؤدي والمستمع المُتلقي. منذ اختراع التسجيل، أصبحت العزلة أثناء أداء الموسيقى ممكنة.

وبالمقابل، أمسى اقتناء الأداء منزليّاً واستهلاكه فرديّاً مُتاحاً أيضاً، لذا صار العديد من مؤدي الموسيقى ومستمعيها يُسقطون تجربة العزف والاستماع الفردية على بيئة الحفلات الاجتماعية، الأمر الذي زاد من صرامة القواعد المفروضة على المُستمعين، وعمّق التناقض بين كل من صفة التمتّع والترفيه وخاصية التأمل والتفكير اللتين تميزان التجربة الموسيقية الكلاسيكية، ما دفع غلين غولد للإعلان مرّةً عن "علاقة حب" باتت تجمعه بالميكروفون، ويدفع مزيداً من عُشاق الموسيقى إلى العزوف عن حضور الحفلات، والاكتفاء بشراء الأسطوانات المُدمجة (CD)، أو تحميل الموسيقى رقمياً، يبثّونها لأنفسهم معتمرين سماعات الآذان (هيدفون).

قد تمتد ازدواجية التجربة، لتشمل الفنون المرئية أيضاً. فبعد أن توفّر تشغيل أشرطة الفيديو في المنزل، ثم ظهرت الأقراص المضغوطة ذات السعة العالية (دي في دي) وقدرتها على تحميل الصورة وبثها بدقة عالية، مروراً بعصر "الآي فون" و"الآي باد"، وصولاً إلى ثقافة المشاهدة المنزلية التي تروّج لها مواقع التحميل مثل "نتفليكس" و"أمازون" ، كل ذلك غيّر من طبيعة ارتياد دور السينما، وقلل من إمكانية الانغماس الكلي في مشاهدة فيلم والتوحّد معه والتماهي بأبطاله، فيما تُسمع الأسنان تقرمش الفوشار، والفكوك تمضغ العلوك، والشفاه ترشف المشروبات الغازية، بينما هاتف نقّال يُضيء هنا، وساعة ذكية تُشع هناك.

فسحة الصمت التي تتمتع بها الموسيقى الكلاسيكية، سواءٌ بين الحركات أو خلالها مرات، تتيح من جهتها مجالاً لتشكّل ظواهر صوتية على الهامش تضيف إلى التجربة السمعية ولا تُنقص منها. أثناء السكون المهيب، وقبل بدء حفل، يسمع الحاضرون مثلاً، وقع أقدام العازفين وهم يهمّون باعتلاء الخشبة.

دوزنة الأوتار قبل مباشرة العزف، لهي أيضاً من شعائر الحفلات الكلاسيكية التي تتناهى معزوفةً سحرية مكتملة بحد ذاتها، حاصل فواصل خماسية تفصل بين أوتار الآلات الوترية تسعى لأن تأتلف وتنسجم، كأنها بالصوت ترسم صورة الكون حين ينشأ وينتظم.

من هنا، تبقى الفائدة الروحية الناتجة عن المشاركة الحسية والفكرية للآخرين ذات وقع خاص وسحر فريد، سواءً بالنسبة لمن يُقدّم الحفل أو من يحضره. السبيل إليها، ليس العصابية والحساسية المُفرطة إزاء أيّ صوت يصدر، همسة تُسمع، أو رأس يهتز، وإنما القناعة الجماعية المدعومة بالدربة والعادة، بأن التزام الصمت قدر المستطاع، من دون تشنّج أو تعصّب، هو الطريق الأمثل، في الارتقاء بالتجربة الموسيقية من عتبه الترفيه الحسي إلى الترفيه عن الروح، وذاك إن لم يحمل قادم الأيام، تقنية "هولوغرام" توفّر خدمة توصيل العازفين إلى المنازل، بإسقاطهم أشباحاً ضوئية في غُرف الجلوس والمضاجع.

المساهمون