قفز الشرق السوري مرة جديدة إلى واجهة الأحداث، مع عودة المعارك بين تنظيم "داعش" من جهة وقوات النظام السوري من جهة أخرى، بالتزامن مع معارك مشابهة بين التنظيم و"قوات سورية الديمقراطية" (قسد). وحقق التنظيم اختراقاً عسكرياً في مدينة البوكمال، من شأنه إعادة بعثرة الأوراق في ريف دير الزور، حيث من الواضح أن سيطرة النظام على جنوب نهر الفرات هشة، إذ تتراجع دائماً أمام "داعش" الذي يتخذ من البادية السورية مستقراً دائماً له. وأمام تراجع قوات النظام وتكبّدها خسائر فادحة، لم يتردد الروس في اتهام أميركا بدعم تنظيم "داعش"، وهو ما يفتح الباب أمام تصاعد الصراع في الشرق السوري الذي بات مجال استنزاف دائماً للنظام وداعميه.
وذكر "المرصد السوري لحقوق الإنسان" أن مدينة البوكمال في أقصى شرق سورية تشهد اشتباكات متواصلة وبوتيرة وصفها بـ"العنيفة" بين عناصر من تنظيم "داعش" من جهة، وقوات النظام ومليشيات إيرانية و"حزب الله" من جهة أخرى، مشيراً إلى أن التنظيم تراجع إلى الأطراف الشمالية المحاذية لضفة الفرات الغربية والأطراف الغربية للمدينة. وأشار "المرصد" إلى أن قوات النظام وحلفاءها يحاولون محاصرة عناصر التنظيم على أطراف المدينة وإنهاء وجودهم، بعد إرسال تعزيزات عسكرية إلى البوكمال. وكان مقاتلو "داعش" قد سيطروا، أول من أمس، على أحياء عدة بمدينة البوكمال شرق دير الزور، بعد معارك مع قوات النظام والمليشيات الموالية لها.
وذكرت مصادر إعلامية مقربة من التنظيم أن مقاتلين يتبعون للأخير شنّوا هجوماً بعربات مفخخة على مناطق سيطرة قوات النظام في مدينة البوكمال، قرب الحدود العراقية، وسيطروا على مساحات واسعة داخلها، مؤكدة مقتل وجرح عشرات العناصر من قوات النظام والمليشيات المساندة لها خلال الهجوم. من جانبه، أكّد "المرصد" أن المعارك المتواصلة بوتيرة متصاعدة منذ فجر الجمعة خلفت مزيداً من القتلى والجرحى بين طرفي القتال، مشيراً إلى مقتل 30 على الأقل من قوات النظام والمسلحين الموالين لها، وهم 16 من السوريين والمليشيات السورية الموالية لإيران، من ضمنهم قائد عسكري رفيع المستوى في قوات النظام، وقيادي واحد على الأقل من "حزب الله"، و5 من المليشيات العراقية، والبقية من القوات الإيرانية والمليشيات الآسيوية التابعة لها. وأكد "المرصد" مقتل 21 على الأقل من عناصر "داعش"، بينهم 10 فجّروا أنفسهم بعربات مفخخة وأحزمة ناسفة.
وكانت قوات النظام قد سيطرت، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، على مدينة البوكمال الواقعة على الحدود السورية العراقية، وكانت أبرز معاقل التنظيم في شرقي سورية على مدى سنوات. وأوضحت مصادر محلية، لـ "العربي الجديد"، أن التنظيم لم يغادر محيط البوكمال إثر انسحابه منها أواخر العام الماضي، فبقي على مسافة نحو 20 كيلومتراً جنوب نهر الفرات في البادية السورية، ونحو كيلومترين فقط شمال نهر الفرات حيث يتمركز في قريتي الباغز والسوسة. وأشارت إلى أن التنظيم شن، أخيراً، من قواعده في منطقة "التي تو" في البادية هجوماً على قرى واقعة غرب مدينة البوكمال، فسيطر على قرى على مسافة نحو 20 كيلومتراً، أبرزها غبرة، والرمادي، والبقعان، والجلاء، والحسرات، والصالحية، فاتحاً بذلك قناة اتصال مع مناطقه شمال الفرات من خلال النهر نفسه. وأوضحت المصادر أن مسلحي التنظيم هاجموا، في الوقت ذاته، بلدة الموحسن غربي البوكمال، وقطعوا بذلك الطريق العسكري بين مطار دير الزور العسكري ومدينة البوكمال.
وبالتزامن مع معارك "داعش" مع قوات النظام جنوب نهر الفرات، تستمر الاشتباكات بوتيرة عنيفة بين "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، المدعومة من التحالف الدولي، من جهة، وعناصر "داعش" من جهة أخرى، في شمال نهر الفرات، حيث لا يزال التنظيم يحتفظ بوجود مهم في ريف دير الزور الشرقي وجانب من ريف الحسكة الجنوبي. وأشار "المرصد السوري لحقوق الإنسان" إلى أن "قوات سورية الديمقراطية" وقوات التحالف الفرنسية والإيطالية والأميركية، تمكنت من تحقيق تقدّم ضمن الجيب الأخير للتنظيم في ريف الحسكة الجنوبي المتصل مع ريف دير الزور الشرقي، وسيطرت على عدد من القرى، مقتربة من مركز الجيب المتمثل بمنطقة الدشيشة، وسط محاولات مستمرة لإنهاء وجود التنظيم في المنطقة وطرده من كامل المحافظة، عبر السيطرة على هذا الجيب القريب من الحدود السورية ــ العراقية، وفق "المرصد". ولا يزال "داعش" يحتفظ بوجود له في ريف دير الشرقي على مسافة نحو 30 كيلومتراً على الطرف الشمالي لنهر الفرات يمتد من قرية البحرة حتى قرية السوسة على أطراف مدينة البوكمال.
ويأتي التصعيد العسكري شرقي سورية، في وقت تتسارع فيه التطورات السياسية والعسكرية لرسم مستقبل سورية، في ظلّ تصاعد التجاذب الروسي الأميركي، ومحاولة النظام تهديد الجانب الأميركي "إعلامياً"، من خلال توعّد "قسد" في حال عدم تسليم الأخيرة لمنطقة شرقي الفرات إلى قوات النظام من خلال المفاوضات. واتهمت موسكو صراحة "دولة إقليمية بدعم نشاط تنظيم داعش الإرهابي أخيراً"، إذ اعتبرت قاعدة حميميم الروسية أن هذا الدعم يعتبر "أمراً مهماً"، مشيرة إلى أنه "يجب تحميل تلك الدولة مسؤولية أفعال التنظيم التخريبية الأخيرة". وأعلنت، في منشور لها على صفحتها على "فيسبوك"، أمس، أنه لن يتم الإفصاح عنها في الوقت الراهن، حفاظاً على التوازن الدولي في المنطقة. كذلك صعدت وزارة الدفاع الروسية من نبرة انتقادها لواشنطن، واتهمتها بحماية عناصر تنظيم "داعش"، وذلك بعد أن اتهم وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، رئيس النظام السوري بشار الأسد، بدعم من روسيا وإيران، بـ"إيصال الشعب السوري إلى الكارثة"، مشيراً إلى أن "قوات سورية الديمقراطية" هي الوحيدة التي تمكّنت من الانتصار على "داعش" في سورية. وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية إيغور كوناشينكوف، أمس، "في ما يتعلق بالوضع الراهن في سورية، ننصح وزير الدفاع الأميركي بدراسة خريطة الوضع في هذه البلاد. جميع بؤر مواجهة إرهابيي داعش في سورية توجد فقط في المناطق الخاضعة لسيطرة الولايات المتحدة". وأضاف "الكارثة الحقيقية للشعب السوري تسجل من قبل الأمم المتحدة والحقوقيين في منطقة التنف المحتلة من قبل القوات الأميركية، إضافة إلى الرقة، التي تسيطر عليها الولايات المتحدة بشكل غير قانوني. وهو ما تم توثيقه في تقرير منظمة العفو الدولية الأخير". وتابع "الجزء الأكبر من الأسلحة الأميركية، المرسلة إلى المعارضة في سورية، وقعت في أيدي مسلحي تنظيمي جبهة النصرة وداعش الإرهابيين، اللذين تتوافق أهدافهما مع سياسة واشنطن، المتمثلة بإطاحة حكومة سورية الشرعية".