تحوّلت مالي، في الأيام الأخيرة، إلى نقطة ترقّب أفريقية وغربية، بعد انتشار الاحتجاجات الشعبية فيها ضد سياسات الرئيس، إبراهيم أبو بكر كيتا، الرجل الأقوى في البلاد. ومع أن مطالب المحتجين محلية، وتتمحور حول نتائج انتخابية أخيرة، إلا أن صدامات العاصمة باماكو وضحاياها في اليومين الماضيين، أثارت الذعر من احتمال غرق السلطة المركزية ومعارضيها في صراعات تُبعد الأنظار عن حقيقة سقوط نصف مساحة مالي تقريباً في أيدي طرفين: الجماعات المتشددة المدعومة من "داعش" و"القاعدة"، وحركات تحرير أزواد. ويهدّد الوضع الناشئ واحتمال انزلاق كل البلاد إلى النزاعات المسلّحة، أمن واستقرار دول الجوار، من تشاد والنيجر والجزائر وبوركينا فاسو ونيجيريا وموريتانيا وساحل العاج وغينيا والسنغال وغينيا بيساو وليبيريا وبنين وتوغو وغامبيا وغانا، خصوصاً أنه قد يفسح المجال لتمدد "بوكو حرام" إلى الساحل الشرقي للمحيط الأطلسي، مع ما يحمله هذا الأمر من احتمال قرصنة سفن والتأثير على التجارة البحرية في الغرب الأفريقي من جهة، وزيادة عدد اللاجئين والمهاجرين نحو الجنوب الأوروبي من جهة أخرى.
وكان كل شيء قد بدأ على خلفية دعوات للتظاهر بقيادة تحالف "حراك 5 يونيو"، للمطالبة بإقالة المحكمة الدستورية التي ألغت نتائج 30 دائرة في الانتخابات التشريعية التي جرت في مارس/آذار وإبريل/نيسان الماضيين. وهي انتخابات شابها عنف وسقوط ضحايا، فضلاً عن فوز الحزب الحاكم "التجمّع من أجل مالي"، بأكثرية هزيلة. ومع أن الاحتجاجات بدأت فعلياً في يونيو/حزيران الماضي، إلا أنها ظلّت تحت السيطرة حتى ما بعد لقاء كيتا مع زعيم حراك "5 يونيو"، الإمام محمود ديكو، في 5 يوليو/تموز الحالي. وعلى الرغم من بروز أنباء عن طرح كيتا اتفاقاً ينص على استمراره رئيساً بصفة "شرفية" مع تشكيل حكومة وحدة وطنية ثم إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، إلا أن المعارضة رفضت ذلك.
حلّ الرئيس المحكمة الدستورية واعتبر أن المحتجين تجاوزوا الحدود
ومع رفض الرئيس الاستقالة، تطورت الأمور إلى اقتحام مباني التلفزيون والبرلمان يوم الجمعة الماضي، وأطلقت الشرطة الأعيرة النارية والغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين. وقال مدير هيئة الإذاعة والتلفزيون ساليف سانوغو، لوكالة "فرانس برس"، إنّ "الضرر المادي بالغ هنا، فثمة ست سيارات متفحمة وسبع أخرى كسر زجاجها، فضلاً عن سرقة آلة الأرشفة الرقمية الجديدة وخادم النشرة الإخبارية، إضافة إلى إلحاق الضرر بمعدات أخرى". وعادت القناة الوطنية إلى البث السبت، بينما ظلّ مبنى البرلمان خالياً.
وهو ما حدا بكيتا إلى حلّ المحكمة الدستورية، مشيراً في خطابه الرابع خلال شهر إلى أنه أمر بإلغاء مراسيم تعيين قضاة المحكمة الدستورية التسعة، موضحاً أن هذا الإجراء يعني "حل المحكمة فعلياً"، ثم رمى الكرة في ملعب المعارضة، معتبراً أن المحتجين "وصلوا إلى أقصى الحدود المسموح بها وتجاوزوها".
لكن رئيس الوزراء بوبو سيسيه بدا مرناً أكثر، فوعد، يوم السبت، بتشكيل حكومة انفتاح "سريعاً جداً". وقال خلال زيارة أحد المستشفيات "هناك أربعة قتلى وجرحى"، مضيفاً أن "الرئيس وأنا نبقى منفتحين للحوار. سريعا جداً، سأشكل حكومة مع نية إبداء انفتاح لمواجهة التحديات الراهنة". مع ذلك، استمرت الصدامات في باماكو وتكثفت، أمس الأحد، مع نصب رجال حواجز في عدد من أحياء العاصمة وأحرقوا إطارات وقاموا بعمليات تخريب استهدفت مواقع عديدة، من بينها مكاتب المجلس الأعلى للمجموعات السكانية. وساد التوتر حول مسجد يلقي فيه الإمام محمود ديكو خطبه. وفي أجواء تشجع انتشار الشائعات، خشي أنصاره من توقيفه فتواجهوا مع قوات الأمن. وقالت مصادر قريبة من ديكو، إن قوات الأمن ردت بإطلاق الرصاص الحي، ما أدى إلى إصابة عدد من الرجال بجروح خطيرة. ونشرت المصادر صوراً للجرحى، من دون نشر أي حصيلة لضحايا السبت، بينما أسفرت أعمال العنف الجمعة عن سقوط ثلاثة قتلى على الأقل وعشرات الجرحى.
مع العلم أن السلطات أوقفت عدداً من قادة المعارضة الرئيسيين يومي الجمعة والسبت، ومنهم تشوجويل كوكالا مايجا وماونتاجا تول وعيسى كاو دجيم وكليمان دمبيلي. وعمدت إلى مهاجمة مقرّات المعارضة خلال اجتماع كان مخصصاً لتدارس الخطوات التالية تحت شعار "العصيان المدني"، والقيام بمبادرات من أجل "الذهاب لتحرير زملائنا" الموقوفين، وفق المعارض كاوو عبد الرحمن ديالو. من جهته، ذكر المتحدث باسم "حراك 5 يونيو" نوهوم توجو، أن قوات الأمن "جاءت وهاجمت ونهبت مقرنا".
وحّد حراك 5 يونيو مختلف أطياف المعارضة تحت قيادة الإمام محمود ديكو
وتعدّ تظاهرة الجمعة ثالث أكبر تظاهرة ينظّمها في أقل من شهرين تحالف حراك "5 يونيو" الذي يعبّر عن الغضب إزاء عدد من المسائل: الاستياء من التدهور الأمني والعجز عن المواجهة بعد سنوات من أعمال العنف، الركود الاقتصادي، قصور الخدمات الحكومية، إضافة إلى تراجع الثقة في المؤسسات الحكومية حيث تفشى الفساد. غير أن واشنطن رفضت أي تغيير بالقوة، حسبما جاء في تغريدة المبعوث الأميركي الخاص إلى منطقة الساحل بيتر فام، على "تويتر"، معتبراً أنّ "حوادث باماكو تثير القلق"، لكنه شدّد على أنّ "أي تغيير حكومي خارج أطر الدستور غير وارد".
ويُشكّل حراك "5 يونيو" أبرز تجمّع معارض في تاريخ مالي، تحديداً لضمّه أجنحة متنوّعة دينياً وعرقياً وسياسياً تحت رايته، كما تمكن من تحشيد أكبر التظاهرات في البلاد. ويعيد مراقبون ذلك إلى شخصية الإمام محمود ديكو، المُلقّب بـ"إمام الشعب"، وكان من المؤيدين سابقاً لكيتا، لا بل كان أساسياً في تبوؤ الأخير سدة الرئاسة عام 2013، بوصفه شخصية دينية مؤثرة في السنوات العشر الأخيرة بالبلاد، ترأس خلالها المجلس الإسلامي الأعلى.
وديكو مولود في عام 1954 في تمبكتو شمالي مالي، وينتمي جغرافياً إلى إقليم أزواد، إلا أنه يؤيد وحدة مالي. كان في الأصل مدرساً للغة العربية، وتلقى تعليمه الأول في المدرسة التقليدية لوالده، فحفظ القرآن قبل أن يتنقّل بين موريتانيا والسعودية لإكمال دراسة الشريعة الإسلامية ثم يصبح إماماً لأحد أكبر مساجد باماكو. وسبق للسلطات أن اختارته مفاوضاً مع بعض التنظيمات المسلحة، وعُرف عنه تأييده للتدخل العسكري الفرنسي في مالي سنة 2013، في سياق عملية "سرفال"، ورفض وصف التدخل بـ"الاحتلال"، معتبراً أن فرنسا "جاءت لنجدة شعب منكوب".
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)