عادة ما يقترن اسم إثيوبيا بالحرب الأهلية الدامية (1974 ـ 1991)، والمجاعة الكبرى (1983 ـ 1985)، وترحيل يهود الفالاشا إلى الكيان الإسرائيلي في الثمانينيات، والحرب مع إريتريا، وأخيراً سدّ النهضة، غير أن ما جرى في الأيام الأخيرة، في بلادٍ تُعتبر موئل أول إنسان عاقل في التاريخ، من احتجاجات "نادرة" ترافقت مع سقوط ضحايا، يشي بتحوّلات قد تُعيد أديس أبابا إلى سنوات الظلام.
منذ الخامس من أغسطس/آب الحالي، أخذت تتدهور الأوضاع في إثيوبيا، بفعل قيام احتجاجات في مناطق عدة، تطالب بإنهاء انتهاكات حقوق الإنسان من قبل الحكومة في أديس أبابا، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، وتوزيع عادل للثروة، وغيرها من المطالب الاقتصادية والاجتماعية. وبعد نحو أسبوع من الاحتجاجات والمواجهات بين السلطات والمعارضين، اعترفت الحكومة بمقتل سبعة أشخاص، فيما ذكرت "رويترز" أنه تمّ إحصاء سقوط 90 قتيلاً، بينما تتحدث المعارضة عن سقوط 400 قتيل.
لا تتوقف أبعاد الاحتجاجات عند هذا الحدّ، فالمعارضون ينتمون إلى أكبر مجموعتين عرقيّتين في إثيوبيا، أورومو (34.4 في المائة من السكان)، وأمهرة (27 في المائة من السكان)، المعترضتين على حكم الأقلية التيغرية (6.08 في المائة من السكان). ويسكن الأورومو في منطقة أوروميا، التي تجاور كينيا وجنوب السودان، فضلاً عن تطويقها إدارياً وديمغرافياً، العاصمة أديس أبابا. أما مناطق أمهرة فتقع بمحاذاة إريتريا والسودان. وعدا عن تشكيل المنطقتين، في حال اتحادهما معاً ضد حكم التيغري، قوة لا يُستهان بها، يسمح لها بتغيير الحكم في إثيوبيا، إلا أن الأوضاع لم تصل إلى هذا الحدّ بعد. ذلك أن السلطات الإثيوبية الحالية، لا تزال تتمتع بتأييد أطراف مؤثرة من الأوروميين والأمهريين، من دون أن يعني ذلك، قدرتها على ضمان ولائهم لوقتٍ طويل، ما لم تحقق بعض المطالب، وربما قد يكون أهمها، تصحيح الوضع الإداري لمقاطعة وولكايت، المهمة اقتصادياً، التي يطالب الأمهريون بعدم دمجها مع مناطق للتيغريين، لأنها ستسمح بتحوّلها لمعقلٍ لهم، مع تجاهل حقوق الأمهريين.
الاحتجاجات الأخيرة ليست الأولى من نوعها، إذ سبقتها احتجاجات مماثلة على مدار السنوات الماضية، آخرها في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، التي سقط فيها عشرات القتلى، بل ذكرت بعض التقارير أنه سقط 400 قتيل في ذلك الحين. ومع عدم اعتراف الحكومة بفداحة ما يجري، واعتمادها سياسة "الإنكار" إزاء الانتفاضة الأخيرة، فإن الأمور مرشحة لمزيد من التصعيد، خصوصاً أن السلطات أغلقت منذ يوم الجمعة الماضية مواقع التواصل الاجتماعي، التي تُعتبر القناة الرئيسية للنشطاء للدعوة إلى مثل هذه الاحتجاجات. وتميل الحكومة إلى المواظبة على سياسة التعتيم الإعلامي والقمع الجسدي والفكري، بغية تأمين ديمومة السلطات.
في الواقع، بدأت الأمور تتضح مع وفاة رجل إثيوبيا القوي، ميليس زيناوي، عام 2012، وبدأت تتفكك بعده المنظومة الحديدية، التي بناها، في الحرب الأهلية، ثم في الحياة السياسية، تحديداً لناحية تزايد انتقادات المواطنين ومواجهتهم قوات الأمن. كان زيناوي رئيساً للبلاد (1991 ـ 1995)، ثم رئيساً للوزراء (1995 ـ 2012). زيناوي، المنتمي للأقلية التيغرية، جمع كل خصوم نظام منغستو هيلا مريام الشيوعي (1974 ـ 1987) في خندقٍ واحد، ونجح في إسقاطه. ثم أمسك بـ"الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية"، التي لا تزال تحكم البلاد حتى اليوم. كما خاض الرجل حرباً ضارية مع إريتريا، مواجهاً "صديقه" القديم، الرئيس الإريتري إسياس أفورقي. واستطاع زيناوي أيضاً، تحسين الاقتصاد الإثيوبي، ولو بتركيز الثروة بين أيدي فئة قليلة، وجعل أديس أبابا من أكثر الاقتصاديات تحرّكاً في العقد الأخير في أفريقيا.
بالنسبة إلى إثيوبيا، فإن الأحداث الحالية، تطرح وضعية مختلف الملفات المتصلة بدول الجوار. في الأساس، تعمل أديس أبابا على إنجاز سدّ النهضة، المفترض أن يضع حداً لكل مشاكل الري في البلاد، فضلاً عن تطوير الاقتصاد الزراعي. كما أن العلاقة مع إريتريا، لم تتحسّن قط، لا بل إن ظروف المعارك والحرب جاهزة في كل لحظة، ولا يزال اشتباك يونيو/حزيران الماضي، ماثلاً في الأذهان. عدا ذلك، فإن لإثيوبيا، مهمة مشتركة مع كينيا، في مكافحة "حركة الشباب" الصومالية، وفي حال انشغال أديس أبابا باضطراباتها الداخلية، فقد تجد الحركة سبيلاً لتنفيذ المزيد من الهجمات والاعتداءات، على إثيوبيا وكينيا معاً.
عدا ذلك، فإن الأميركيين، أضحوا على الخط، مع تعبير الولايات المتحدة، عن "قلقها البالغ لتطورات الأحداث في إثيوبيا"، كما دعت السفارة الأميركية في أديس أبابا إلى "احترام الحقوق المكفولة من الدستور الإثيوبي لكل المواطنين"، بينما اتهم نائب المدير الإقليمي لشرق أفريقيا والقرن الأفريقي ومنطقة البحيرات العظمى في منظمة العفو الدولية، ميشال كاجاري، في تصريحات له، قوات الأمن في إثيوبيا باستخدام القوة المبالغ فيها من أجل إخماد أصوات المعارضة في البلاد. وتهتم الصين بالوضع الإثيوبي، لكونها الشريك التجاري الأول (تصدّر إثيوبيا 13 في المائة من بضائعها إلى الصين، وتستورد 15.3 في المائة من احتياجاتها منها).
لا يبدو أن الأوضاع ستهدأ قريباً، مع تنامي موجة الاحتجاجات، وتزايد الاهتمام الإقليمي والدولي، ويلخّص مؤسس موقع "أوبرايد" الإلكتروني، الإثيوبي محمد أديمو، ما يجري بالقول إن "ما يحدث حالياً في البلاد ربما يسفر عن سقوط الحكومة"، مضيفاً "لم أرَ مثل هذه الاحتجاجات من قبل في حياتي. ربما المثال التاريخي الأقرب هو الثورة التي انتهت بسقوط آخر إمبراطور إثيوبي هيلا سيلاسي (في عام 1974)".