بعد نجاته خلال فترات سابقة من المحاسبة لاستخدامه السلاح الكيميائي ضد المدنيين في مناطق سورية عدة كانت خاضعة لسيطرة المعارضة، يعود ملف السلاح الكيميائي لملاحقة النظام السوري مجدداً، مع تحميل منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، في تحقيقٍ لها نشر أول من أمس، الخميس، هذا النظام بشكلٍ واضح، المسؤولية عن شنّ هجمات بغاز الأعصاب في بلدة اللطامنة في ريف حماة، في مارس/ آذار 2017. وصوّت المجلس التنفيذي للمنظمة على التحقيق، أول من أمس، وأمهل النظام مدة 90 يوماً كي يعلن كلّ التفاصيل بشأن المنشآت التي أنتجت فيها مادتا السارين والكلور، اللتان استُخدمتا في تلك الهجمات، تحت طائلة رفع الأمر إلى الاجتماع السنوي لجميع الدول الأعضاء في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. ولفتت المنظمة إلى توصيات بشأن الإجراءات التي يمكن اتخاذها في حال لم يعالج الأمر.
وعلى الرغم من أن العقوبات المحتملة ضد النظام في حال عدم تعاونه، قد لا تشكل خطورة كبيرة عليه، وأقصاها قد يتمثل في فقدانه حقّ التصويت في المنظمة، إلا أن تحميله المسؤولية عن هذه الهجمات قد يساهم إلى جانب تطورات أخرى، مثل "قانون قيصر" الأميركي، في نزع الشرعية الدولية عن النظام، والتمهيد لتقديم رموزه للمحاكم الدولية، لا سيما أن المنظمة ظلّت لفترة قصيرة غير مخوّلة تحميل مسؤولية الهجمات لأي طرف، والاكتفاء بتأكيد أو نفي وقوعها. كما يمكن لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية إحالة الملف إلى مجلس الأمن الدولي على خلفية انتهاك معاهدة الأسلحة الكيميائية.
قد يساهم التقرير إلى جانب قانون قيصر، في نزع الشرعية الدولية عن النظام، والتمهيد لتقديم رموزه للمحاكم الدولية
وتوصل أول تقرير يصدر عن فريق التحقيق الجديد التابع للمنظمة، إلى أن طائرتين تابعتين للنظام السوري ألقتا قنابل تحتوي على غاز السارين على اللطامنة، وأن مروحية ألقت برميلاً متفجراً مليئاً بالكلور على البلدة، فيما أعلن المدير العام للمنظمة، فرناندو أرياس، أن الفريق يحقق بشأن حوادث أخرى وقعت في سورية. وعلى الفور، أشادت وزارة الخارجية الأميركية بتقرير المنظمة، واعتبرت أنه "يقربنا خطوة واحدة من محاسبة النظام السوري على استخدامه" لهذا النوع من الأسلحة. أما النظام فينفي استخدام السلاح الكيميائي، قائلاً إنه سلّم مخزونه الكامل ودمره بعد الهجوم على الغوطة في العام 2013، لكن المفتشين الدوليين عثروا على مواد سامة وذخائر لم يتم الإفصاح عنها خلال عمليات التفتيش.
وكان تقرير للمنظمة ذاتها صدر في إبريل/ نيسان الماضي، قد حمّل النظام المسؤولية عن ثلاث هجمات كيميائية استهدفت مدينة اللطامنة في 24 و25 و30 مارس/ آذار 2017. وسبق هذه الهجمات الهجوم بغاز السارين الأكثر فتكاً في خان شيخون في ريف إدلب الجنوبي. وقدمت نتائج التقرير دليلاً على أن النظام لم يقم فقط بإخفاء جزءٍ من مخزونه من الأسلحة الكيميائية خلال عملية نزع السلاح الدولية (2013 ـ 2014)، بل استمر في استخدام هذه الأسلحة المحظورة مع الإفلات من العقاب أيضاً. وعلّق وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، على التقرير وقتها، بقوله إن نظام بشار الأسد "يحتفظ بما يكفي من كيميائيات وخبرات لتطوير أسلحة كيميائية جديدة، لا سيما السارين والكلور"، مضيفاً أن لديه "خبرات من برنامجه التقليدي للأسلحة الكيميائية لاستخدام السارين وذخيرة الكلور وتطوير أسلحة كيميائية جديدة".
ورجّح المحلل السياسي شادي العبدلله، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الدول الكبرى، بما فيها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، كانت على علم بأن النظام واصل إنتاج أسلحة كيميائية بعد زعمه تسليم مخزونه والتوقف عن الإنتاج إثر مجزرة الغوطة، لكنها آثرت عدم اتخاذ إجراءات جدية ضده، في إطار سياستها الرامية إلى إطالة أمد الحرب في سورية بغية إنهاك النظام وروسيا وإيران، وتدمير مقدرات البلاد، خدمة لإسرائيل. وأوضح العبدلله أن استخدام النظام للأسلحة الكيميائية اعتباراً من أواخر العام 2012، كان استكمالاً لعمليات القصف بالأسلحة التقليدية، بهدف عدم ترك أي خيار للسكان سوى مغادرة المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، لحرمان فصائل الأخيرة من حاضنتها الشعبية.
ورأى العبدلله أن تحديد اسم الجهة المستخدمة للسلاح الكيميائي بشكل واضح لا لبس فيه، يعني أن تقرير المنظمة الدولية يمكن أن يكون دليلاً يُقدّم أمام أي محكمة دولية تتابع انتهاكات النظام السوري، فضلاً عن أن هذه الإدانة الواضحة للنظام تقطع الطريق على أي محاولة تبذلها روسيا لإعادة تأهيل النظام على الساحة الدولية، بما يدعم مفعول "قانون قيصر" الذي له التأثير نفسه.
وتشير تقديرات عسكرية إلى أن الوحدات المسؤولة عن تنفيذ الهجمات في قوات النظام، تتمثل أساساً في "الفرقة الجوية 22"، "الفرقة الرابعة"، "قوات النمر" و"اللواء 63" مروحيات المرتبط بتلك القوات. وبحسب تقديرات دولية، فإن قوات النظام السوري استخدمت الأسلحة الكيميائية أكثر من 340 مرة طوال فترة الحرب، مع حصول أكثر من 90 في المئة من هذه الحوادث عقب الضجة المتعلقة بالخط الأحمر الأميركي، والتي أعقبت هجمات 21 أغسطس/ آب 2013 في الغوطة الشرقية، وعملية نزع السلاح اللاحقة.
أشادت واشنطن بالتقرير، معتبرة أنه يقرب خطوة من محاسبة النظام على استخدامه السلاح الكيميائي
وفي إبريل/ نيسان الماضي، نشر المعهد العالمي للسياسة العامة في ألمانيا خريطةً تفاعلية تظهر الأماكن التي استهدفتها قوات النظام بالأسلحة الكيميائية في سورية، منذ العام 2012 وحتى اليوم. وأكد المعهد أن النظام قصف بالأسلحة الكيميائية أكثر من 345 منطقة، مشيراً إلى تزامن الضربات مع الهجمات العسكرية لقوات النظام على المناطق المستهدفة. كما ذكرت تقارير إعلامية في إبريل/ نيسان الماضي، أن النظام السوري أعاد تأهيل الوحدة 416 كيمياء، جنوب حلب، خلال الأشهر الأربعة الماضية.
وقبل سبتمبر/ أيلول 2013، لم يعترف النظام علناً بحيازة أسلحة كيميائية، على الرغم من أن أجهزة الاستخبارات الغربية تعتقد أن سورية تحتفظ بواحد من أكبر المخزونات في العالم. وفي سبتمبر/ أيلول 2013، قدّرت الاستخبارات الفرنسية المخزون السوري بمقدار ألف طن، بما في ذلك غاز الخردل، وغاز الأعصاب، ومئات عدة من الأطنان من السارين. وفي ذلك الوقت، كانت سورية واحدة من عدد قليل من الدول التي لم تصادق على اتفاقية الأسلحة الكيميائية، قبل أن تنضم إليها في سبتمبر 2013، ووافقت على تدمير أسلحتها بإشراف منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، حيث أنشئت بعثة مشتركة بين المنظمة والأمم المتحدة للإشراف على عملية التدمير، وذلك إثر الهجوم الكيميائي الذي وقع في أغسطس/ آب 2013 في الغوطة الشرقية بريف دمشق.
وحين وصلت فرق التفتيش الدولية إلى سورية عام 2013، كشف النظام عن 23 موقعاً لتخزين السلاح الكيميائي، ممتدة على أكثر من 240 ميلاً، فيها 1300 طن من المواد الكيميائية. كما اعترف بوجود أكثر من مائة رأس حربي صاروخي، معظمها من صواريخ "سكود". وما كان مفاجئاً للمفتشين هو أن العديد من مختبرات الإنتاج كانت مخبأة على مرأى من الجميع، فوجدوا مثلاً أسلحة مخزنة على متن 18 شاحنة متنقلة، مشابهة جداً لشاحنات النقل العادية.