من غرائب الأقدار أن تُنجد نفسك سياسياً، ولو إلى حين، بطرفٍ طالما كنت على صدامٍ دمويٍ معه. هكذا حال بريطانيا ـ تيريزا ماي، مع إيرلندا الشمالية، بقيادة "الحزب الوحدوي الديمقراطي". ذلك أن خطوة التحالف الحكومي بين ماي والوحدويين في بلفاست، تُعتبر "غريبة" قياساً على مجريات الوضع الحالي في بريطانيا، كما تشرّع الأبواب أمام مستقبل غامض، وفوضوي في بعض جوانبه، قد يتجلّى حتى مع استحضار التاريخ القريب، لجهة عودة "الجيش الجمهوري الإيرلندي"، إلى الساحة السياسية.
بدأ كل شيء في 8 يونيو/حزيران الحالي، مع تعرّض ماي لنكسة كبيرة في الانتخابات التشريعية المبكرة، أدت إلى تراجع حزبها "المحافظون" وحصوله على 317 مقعداً من أصل 650 (أي ما دون الغالبية المطلوبة وهي 326)، في مقابل تقدّم حزب "العمال" بقيادة جيريمي كوربين. لم تتمكن ماي من إيجاد حليف مساندٍ لها ينقذها من احتمال انتقال الحكومة لـ"العمال"، أو حتى إجراء انتخابات جديدة بعد 6 أشهر، سوى بالتحالف مع "الحزب الوحدوي الديمقراطي"، الذي كسب 10 مقاعد فقط في مجلس العموم البريطاني. لم يأتِ الاتفاق بين الطرفين مجاناً، بل تضمنّ، وفقاً لرئيسة "الحزب الوحدوي الديمقراطي"، أرلين فوستر، "حصول إيرلندا الشمالية على مليار باوند استرليني (1.28 مليار دولار) إضافي (من الميزانية البريطانية العامة) في السنتين المقبلتين"، مشيرة إلى أن "هذا المبلغ سيعزز الاقتصاد والاستثمار في البنى التحتية الجديدة وفي قطاعي التعليم والصحة".
في الواقع، يُعتبر الاقتصاد الإيرلندي الشمالي "غير مستقر"، وفقاً للغة الاقتصادية، لا بل يُعتبر الاقتصاد الأكثر خطورة بين مكوّنات بريطانيا: انكلترا، وويلز، واسكتلندا، وإيرلندا الشمالية. بالتالي لا تزال آثار الماضي الدموي القريب، في الصراع بين "الجيش الجمهوري الإيرلندي" وحكومة لندن وأنصارها في بلفاست، ماثلة في البنى التحتية في إيرلندا الشمالية. كما أن الاستثمارات تبدو "خجولة" في البلاد، لأن الجغرافيا لا تخدم إيرلندا الشمالية كونها تشكّل جزءاً من الجزيرة الإيرلندية، التي تضمّها مع جمهورية إيرلندا. وأيضاً لأن الجهة المقابلة للبلاد هي المملكة المتحدة واسكتلندا. بالتالي تبدو الخيارات الاقتصادية ضيّقة: إما الاتحاد مع جمهورية إيرلندا وإما التناغم مع بريطانيا. فاختارت بلفاست لندن، لا دبلن.
هذا الاختيار، وبعنوانٍ اقتصادي، سيجعل الاستثمارات أكثر ثباتاً لإيرلندا الشمالية. لا خيار أمام المملكة المتحدة سوى دعم القطاعات الأساسية في إيرلندا الشمالية، ما سيمنح ماي المجال لإغراء اسكتلندا ثم ويلز لاحقاً، بدفن الأحلام الانفصالية، واقناعهما أن الوحدة مع بريطانيا، أفضل بكثير من الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي. وحتى أن كلام ماي في تسهيل إقامة المواطنين الأوروبيين في لندن، يأتي في سياق التنازلات الطفيفة لتأمين وحدة المجموعة البريطانية.
أما إيرلندا الشمالية، فإن ضخّ مبلغ 1.28 مليار دولار خلال سنتين، في اقتصاد هو الأصغر بين بلدان بريطانيا الأربع، ومبنٍ على قطاعات الخدمات، والصناعة (بناء السفن تحديداً)، والزراعة، هو نصر فعلي لـ"الحزب الوحدوي الديمقراطي"، المتيقن من قدرة لندن على الإيفاء بوعودها تجاهه. لكن ذلك سيفتح باباً أمام إشكالية أكبر في حال الفشل: عودة "الجيش الجمهوري الإيرلندي".
اقــرأ أيضاً
"الجيش الجمهوري الإيرلندي"، أو الجناح السياسي "شين فين"، بات أمام محطة فعلية قد تنقض اتفاق عام 1997، الذي وضع حدّاً للنزاع الدموي بين الغالبية الكاثوليكية المؤيدة للانفصال عن بريطانيا والاتحاد مع جمهورية إيرلندا، وبين الغالبية البروتستانتية المؤيدة للتحالف مع بريطانيا، وذلك بين عامي 1969 و1997. الاتفاق الذي كُني باسم "اتفاق الجمعة العظيمة"، سمح لإيرلندا الشمالية بالتحوّل نحو العملية السلمية مع بريطانيا، وفق ضوابط تُتيح حق المواطنين في بلفاست في تقرير مصيرهم.
وفي بنود الاتفاق ما يلي: 1 ـ إلغاء القانون الخاص بحكومة إيرلندا، الذي يفرض سيادة بريطانية على الجزيرة كلها ولا يكون لها الحق في تغيير بنوده. 2 ـ تأييد حق جميع سكان إيرلندا الشمالية في حمل جنسيات إيرلندية أو بريطانية، والاتفاق على عدم تغيير هذا الوضع مهما تغيّر وضع إيرلندا الشمالية السياسي. 3 ـ الرجوع إلى الشعب في أي خطوات تُتَّخَذ بشأن مستقبل إيرلندا، مع الإشارة إلى أن جميع الأطراف متفاهمون على أن معظم سكان إيرلندا الشمالية يرغبون في الاستمرار كجزء من بريطانيا، لكن معظم سكان جزيرة إيرلندا ككل ومعهم أقلية لا بأس بها من الشمال يتطلعون إلى تكوين إيرلندا متحدة، أي انفصال شمال إيرلندا عن بريطانيا. 4 ـ لن يتغير أي موقف سياسي لإيرلندا الشمالية إلا بموافقة سكانها من خلال الاستفتاءات التي تقام بأمر من وزير الخارجية البريطاني، وتكون المدة بين الاستفتاء والآخر سبع سنوات، على الأقل.
عليه، فإن البند الثالث من الاتفاق، والذي يشرحه أكثر البند الرابع منه، يسمح لـ"شين فين" في إطلاق مرحلة سياسية جديدة عنوانها "إجراء استفتاء الانفصال عن بريطانيا"، لكن ذلك لن يكون متاحاً قبل بدء تدفق الأموال البريطانية لإيرلندا الشمالية من جهة، وكيفية استثمارها من جهة أخرى. ما يعني أن "الرتابة" السياسية التي شهدتها إيرلندا الشمالية، عقب توقيع "اتفاق الجمعة العظيمة"، باتت أمام مرحلة جديدة من الحركة السياسية. فإما تنجح لندن في استقطاب بلفاست مرة واحدة وأخيرة إلى صفوفها وإنهاء كل الأفكار الانفصالية، وإما يعود "الجيش الجمهوري الإيرلندي" إلى الحياة، للمطالبة بالوحدة مع جمهورية إيرلندا، خصوصاً أن انتشار التيارات اليمينية في أوروبا، وإعلان كاتالونيا إجراء استفتاء الانفصال عن إسبانيا في 1 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، سيحفّز أي حراك مستقبلي لـ"الجيش الجمهوري الإيرلندي".
اقــرأ أيضاً
بدأ كل شيء في 8 يونيو/حزيران الحالي، مع تعرّض ماي لنكسة كبيرة في الانتخابات التشريعية المبكرة، أدت إلى تراجع حزبها "المحافظون" وحصوله على 317 مقعداً من أصل 650 (أي ما دون الغالبية المطلوبة وهي 326)، في مقابل تقدّم حزب "العمال" بقيادة جيريمي كوربين. لم تتمكن ماي من إيجاد حليف مساندٍ لها ينقذها من احتمال انتقال الحكومة لـ"العمال"، أو حتى إجراء انتخابات جديدة بعد 6 أشهر، سوى بالتحالف مع "الحزب الوحدوي الديمقراطي"، الذي كسب 10 مقاعد فقط في مجلس العموم البريطاني. لم يأتِ الاتفاق بين الطرفين مجاناً، بل تضمنّ، وفقاً لرئيسة "الحزب الوحدوي الديمقراطي"، أرلين فوستر، "حصول إيرلندا الشمالية على مليار باوند استرليني (1.28 مليار دولار) إضافي (من الميزانية البريطانية العامة) في السنتين المقبلتين"، مشيرة إلى أن "هذا المبلغ سيعزز الاقتصاد والاستثمار في البنى التحتية الجديدة وفي قطاعي التعليم والصحة".
هذا الاختيار، وبعنوانٍ اقتصادي، سيجعل الاستثمارات أكثر ثباتاً لإيرلندا الشمالية. لا خيار أمام المملكة المتحدة سوى دعم القطاعات الأساسية في إيرلندا الشمالية، ما سيمنح ماي المجال لإغراء اسكتلندا ثم ويلز لاحقاً، بدفن الأحلام الانفصالية، واقناعهما أن الوحدة مع بريطانيا، أفضل بكثير من الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي. وحتى أن كلام ماي في تسهيل إقامة المواطنين الأوروبيين في لندن، يأتي في سياق التنازلات الطفيفة لتأمين وحدة المجموعة البريطانية.
أما إيرلندا الشمالية، فإن ضخّ مبلغ 1.28 مليار دولار خلال سنتين، في اقتصاد هو الأصغر بين بلدان بريطانيا الأربع، ومبنٍ على قطاعات الخدمات، والصناعة (بناء السفن تحديداً)، والزراعة، هو نصر فعلي لـ"الحزب الوحدوي الديمقراطي"، المتيقن من قدرة لندن على الإيفاء بوعودها تجاهه. لكن ذلك سيفتح باباً أمام إشكالية أكبر في حال الفشل: عودة "الجيش الجمهوري الإيرلندي".
"الجيش الجمهوري الإيرلندي"، أو الجناح السياسي "شين فين"، بات أمام محطة فعلية قد تنقض اتفاق عام 1997، الذي وضع حدّاً للنزاع الدموي بين الغالبية الكاثوليكية المؤيدة للانفصال عن بريطانيا والاتحاد مع جمهورية إيرلندا، وبين الغالبية البروتستانتية المؤيدة للتحالف مع بريطانيا، وذلك بين عامي 1969 و1997. الاتفاق الذي كُني باسم "اتفاق الجمعة العظيمة"، سمح لإيرلندا الشمالية بالتحوّل نحو العملية السلمية مع بريطانيا، وفق ضوابط تُتيح حق المواطنين في بلفاست في تقرير مصيرهم.
وفي بنود الاتفاق ما يلي: 1 ـ إلغاء القانون الخاص بحكومة إيرلندا، الذي يفرض سيادة بريطانية على الجزيرة كلها ولا يكون لها الحق في تغيير بنوده. 2 ـ تأييد حق جميع سكان إيرلندا الشمالية في حمل جنسيات إيرلندية أو بريطانية، والاتفاق على عدم تغيير هذا الوضع مهما تغيّر وضع إيرلندا الشمالية السياسي. 3 ـ الرجوع إلى الشعب في أي خطوات تُتَّخَذ بشأن مستقبل إيرلندا، مع الإشارة إلى أن جميع الأطراف متفاهمون على أن معظم سكان إيرلندا الشمالية يرغبون في الاستمرار كجزء من بريطانيا، لكن معظم سكان جزيرة إيرلندا ككل ومعهم أقلية لا بأس بها من الشمال يتطلعون إلى تكوين إيرلندا متحدة، أي انفصال شمال إيرلندا عن بريطانيا. 4 ـ لن يتغير أي موقف سياسي لإيرلندا الشمالية إلا بموافقة سكانها من خلال الاستفتاءات التي تقام بأمر من وزير الخارجية البريطاني، وتكون المدة بين الاستفتاء والآخر سبع سنوات، على الأقل.