حاجة البيت الأبيض لشراء الوقت في هذه اللحظة الخانقة من تفاعلات أوكرانيا-غيت، فرضت عليه الصيغة التركية وشروطها التي وضعها المراقبون في خانة "الإذعان"، وهي العبارة التي تكررت وبكثير من الاستياء، في سائر الردود والتعليقات التي صدرت عن أقطاب في الكونغرس والعديد من خبراء السياسة الخارجية والمسؤولين السابقين، ولا سيما العسكريين منهم.
في الأساس، كان المأخذ على الرئيس ترامب أن قراره المتفرد بالانسحاب من سورية، كان وراء الأزمة، إذ فوجئ البيت الأبيض عندما أثارت خطوته اعتراضا ديمقراطيا–جمهوريا واسعا لم يتوقعه.
والأهم أن القرار وصل إلى شرائح في قلب قاعدته الانتخابية، إذ صوت مجلس النواب بأكثرية كاسحة 354 مقابل 60، شملت ثلثي الجمهوريين، على قرار يدين انسحابه، الأمر الذي فرض عليه التحرك لتقليل الخسائر، فكانت زيارة بنس العاجلة على رأس وفد عالي المستوى لا يبدو أن الأتراك انبهروا به، ضم وزير الخارجية بومبيو ومستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي روبرت أوبريان، حتى مع أن المحاولة جاءت متأخرة.
ويعرف أردوغان الذي صار صاحب القرار بعد انطلاق العملية، أن سعي الأدارة أملته اعتبارات محلية بحتة، غير مضطر للمساومة من أجلها، وخاصة أن الرئيس ترامب ليس على خلاف مع تركيا حول العملية العسكرية، لأسباب تثير علامات استفهام كثيرة في واشنطن وتكمن في أصل الحملة التي بلغت حد المطالبة بعزل الرئيس الذي "يشن هجمة على الجمهورية"، كما جاء في عنوان مقالة نشرتها نيويورك تايمز للأدميرال المتقاعد وليام ماكرافن. وتظهر لغة غير مألوفة في خطاب كبار العسكريين السابقين الذين اصطدم عدد منهم مع الرئيس علناً بسبب سياساته، وكان آخرها عملية التراشق في الأيام الأخيرة بينه وبين وزير الدفاع السابق الجنرال جيمس ماتيس، ويأتي ذلك في وقت يشتعل فيه الاشتباك السياسي على إيقاع تفاعلات قضية أوكرانيا التي باتت تنذر بانهيارات كبيرة.
وأشارت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى نموذجها "في البيت الأبيض". وبدوره، رد الرئيس بلغة مماثلة في وصفه لحالة بيلوسي "المريضة برأسها". ويعكس التلاسن بالنعوت المتبادلة عمق الصراع الدائر على وقع التحقيقات في قضية أوكرانيا والاعترافات التي يكشفها الشهود يومياً والتي بات معها التصويت في مجلس النواب على قرار بإدانة الرئيس والتوصية بعزله مسألة وقت قد لا يتجاوز نهاية الشهر المقبل، ويحفز على ذلك أن التأييد لمثل هذا الإجراء بلغ 52%.
وفي ظل هذا الواقع، ذهب بنس إلى تركيا ليأخذ لا ليعطي، لكنه انتهى إلى العكس، وانتزعت أنقرة منه وقف العقوبات مقابل هدنة قصيرة قد تكون مهددة بسبب غياب آليات التطبيق، والتوقعات أنها لو صمدت فلا ضمانة لاستمرارها، ولهذا يعود الرئيس الذي صنع الأزمة ليواجه انتكاسة لم يكن له سوى خيار القبول بها. وبذلك رجع إلى التعامل مع أزمتين معاً وفي وقت تتفاقم فيه البلبلة داخل الإدارة التي سيغادرها قريباً وزير آخر تردد أنه مصاب بفيروس أوكرانيا وقد يستدعى لاستجوابه أمام لجان الكونغرس. وبناء على ذلك، فإن كلام بيلوسي والرئيس عن "الانهيار" غير مبالغ فيه.