اتحاد الشغل التونسي ومبادرة السبسي..توريط النقابي في السياسي

09 يونيو 2016

أمام مقر الاتحاد التونسي للشغل في عيد العمال (Getty)

+ الخط -
المبادرة التي أطلقها الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، الأسبوع الماضي، على القناة التلفزية الوطنية الأولى، أكّد صاحبها أنّها تستهدف رأساً "دمج" المنظمة النقابية الرئيسية في البلد، أي الاتحاد العام التونسي للشغل، في حكومة "وحدة وطنية"، وإذ شمل الاقتراح الائتلاف الرباعي الحاكم حالياً، إضافة إلى المنظمتين الوطنيتين للشغالين ولرجال الأعمال، وانفتح على شخصياتٍ مستقلة، و"من يرغب من الأحزاب المعارضة" (في استدراك بعد سؤال الصحافي)، فإنّه ركّز أساساً على اتحاد الشغل، وطلب منه ساكن قرطاج أن "يضع يديه في العجين"، وأنّه، في النهاية، لا قيمة للمبادرة، إذا لم يشارك في الحكومة المقترحة.
أطنب السبسي في مدح اتحاد الشغل، وأطنب في تقديم "الإغراءات"، قصد تشريكه في الحكم، وقدم مسوّغاتٍ عديدةً لإبراز "ضرورة" وجوده في حكومة "الوحدة الوطنية" المقترحة، إلى حد أنه اعتبر أن "حكومة الوحدة الوطنية لن تنجح"، إذا لم تشارك فيها المنظمة العمالية. واعتبر الرئيس التونسي اتحاد الشغالين "ركيزةً أساسيةً للنظام الجمهوري"، و"ركيزةً في بناء الدولة العصرية" بعد الاستقلال، و"ركيزةً في الكفاح من أجل التحرير". ولكن، ما لم يكن واضحاً هل كانت الدعوة إلى الانخراط في حكومة "الوحدة الوطنية" مبدئية جدية، صادقة أم تكتيكية تغلب عليها المناورة، ولها خلفيات أخرى.

إصرار على إشراك الاتحاد

حسم اتحاد الشغل موقفه منذ مدة في مشاركته في السلطة، وقطع مع كل وجودٍ مباشر في السلطة: حكومة سياسية كانت أو تكنوقراطية أو غيرها. ومع ذلك، مدّ رئيس الجمهورية إليه اليد، وألحّ وأصر على مشاركته، واعتبر أن الحكومة المقترحة "ذات مضمون اجتماعي"، وقدّم سُلّم أولويات اجتماعي في أغلبه، بالتركيز على التشغيل، ومعالجة تهميش الجهات والشّباب، من دون إغفال الصحة والتعليم، مع التوجه أول مرة، بصفةٍ أساسيةٍ، إلى مكافحة الفساد الذي كان محل تهميش يبدو متعمّدا، وألقى عليه بصفةٍ جوهريةٍ المسؤولية إن رفض المشاركة، وبلغ الأمر إلى حد إلقاء "الفشل على الجميع ممن رفضوا الدخول في إخراج البلاد من الوضعية" الصعبة، وطبعا الاتحاد التونسي العام للشغل مشمول، وإن لم يُذكر مباشرة.
الظاهر، بل الأكيد، أنّ رئيس الجمهورية بدا في مأزق عميق متعدّد الأبعاد: وضع اقتصادي متدهور واجتماعي متأزم، ركود في النمو، وتهاو في قيمة الدينار، وتراجع في الاستثمار، واستمرار ارتفاع البطالة التي تتجاوز 15% وتصل بين حاملي الشهادات إلى الضعف تقريباً، وتراجع عائدات السياحة، وتعطل في إنتاج الفوسفات والغاز، وعدم الإيفاء بالوعود المتعلقة بتنمية الجهات المقصية، مع بروز اختلال هيكلي في موازنات الصناديق الاجتماعية، وعجز بدأ يتجلى في خزينة الدولة لهذه السنة، من خلال الصعوبة في صرف أجور الموظفين وفي سداد الديون للسنة المقبلة، على حد تصريح محافظ البنك المركزي. ومن الناحية السياسية، عجز الرئيس السبسي في حل أزمة حزبه الأم "نداء تونس" الذي تتعاقب أزماته والبلد على أعتاب انتخاباتٍ محليةٍ (بلدية وجهوية وإقليمية) مصيرية بعد تسعة أشهر، هذا فضلاً عن الاحتقان بين "الوطني الحر" و"النداء"، وتململ "آفاق تونس" داخل ائتلاف الحكم، في الوقت الذي يبدو فيه الاحتقان الاجتماعي منتظراً التفجر، خصوصاً مع فصل الشتاء، فضلاً عن استمرار الهشاشة الأمنية، ويتضح أنه كان "لزاماً" القيام بـ"شيء ما".

خلفيات الدعوة

الضغط الكبير الذي يواجهه السبسي هو الذي دفعه إلى إطلاق المبادرة لتصدّر المشهد الوطني
من جهة، والاستئثار بكل الأضواء، خصوصاً بعد المؤتمر العاشر لحركة النهضة، و"الشو" الكبير الذي رافقه، وهو المهووس بالسلطة. ومن أخرى من أجل التنصّل من مسؤولية الإخفاق بإلقاء المسؤولية على "نقد" و"احتجاج" المعارضة الذي قسمه بين الميداني والإعلامي. وطبعاً، لإبراء الذمّة، بأنه سعى إلى إنقاذ الوضع، من دون نسيان إلقاء المسؤولية على الطرف الاجتماعي بطريقة غير مباشرة، بتعداد ما حققه من زياداتٍ في الأجور لموظفي الدولة، وتسجيل ارتفاع كتلة الأجور الخاصة بهم بأكثر من 6 مليارات دينار في خمس سنوات، من دون مقابل في الإنتاج، على حد تعبيره. ولذلك، سعى إلى "استدراج" اتحاد الشغالين إلى مضمار الحكومة، حتى "لا يطلب من الحكومة أمراً لا تقدر عليه".. أي "هدنة اجتماعية" مباشرة.
واضح أنّ السبسي "استهدف" الاتحاد رأساً، لقدرته على الحشد والاحتجاج، لإغراقه في السلطة، والاستفادة ثلاثية الأبعاد: أولاً، بالتخلص من الاحتجاجات التي كان ينفذها، سواء عبر الإضرابات المهنية أو الحركات الاجتماعية. وثانياً، بتحييده سياسياً، وإضعاف الأحزاب التي كانت ترتكز عليه بصفة غير مباشرة، وأيضاً تحييده اجتماعياً بالتخلي عن الإضرابات. وثالثاً، بالاستفادة من قوته ووزنه السياسي، لضمان أقصى ما يمكن من الفاعلية للحكومة و"تطبيق القانون" على من سمّاهم الخارجين عنه، وضمان حصول تعطيلات في مراكز الإنتاج الحيوية، من أجل توفير موارد مهمة للدولة، وخصوصاً أنه قدّم دولة "القروض" بديلاً لدولة "القانون".

تجاوب الاتحاد.. الانحياز للثوابت

فعل الباجي السبسي كل ما في وسعه لـ"توريط" المنظمة النقابية، و"إغراقها" في مستنقع السلطة الآسن، وخصوصاً مسح الفشل السياسي لحكومة الائتلاف الرباعي، والتصدّعات داخل الائتلاف، وبين بعض الأحزاب ورئيس الحكومة الحبيب الصيد، ووصول "التوافق" بين "الشيخين" (السبسي وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي) إلى حدود الإخفاق، لكن "جاهزية" قيادة اتحاد الشغالين حالت دون الوقوع في الفخ، إذ استبق العباسي، أمين عام الاتحاد، إعلان المبادرة، وأعلن، في إذاعة موزاييك الخاصة، أن "المشاركة ليست في صالح الاتحاد" الذي "يبقى القوة الجامعة والملجأ..". وبالتالي، فـ"صعب مشاركته"، وإن الحكم هو دور الأحزاب، قبل أن يعود ويؤكد، بعد لقائه رئيس مجلس النواب، محمد الناصر، بأنه "من غير الممكن المشاركة في حكومة وحدة وطنية"، ولم يراجع موقفه، بعد لقائه رئيس الجمهورية في اليوم نفسه.
وسحبت منظمة حشّاد بذلك البساط من السبسي، وتجنب الدخول في مغامرةٍ خطيرة العواقب وتوضحت الأمور، في أكثر من مناسبة، مع الأمين العام المساعد، سمير الشفي، خلال ظهوره على "الوطنية الأولى" يوم الجمعة، وخصوصاً الأمين العام المساعد، سامي الطاهري، في الإذاعتين الخاصتين "موزاييك"، يوم الجمعة، و"شمس أف أم"، يوم الإثنين، بالتأكيد على ثلاثة أمور مركزية:
أولاً، الاتحاد يظل معنياً في كل الحالات بالشأن العام. ثانياً، اتحاد الشغل بقطع النظر عن مبادرة السبسي حسم أمر مشاركته في السلطة سلباً، بعد تقييم تجاربه السابقة، وخصوصاً غداة الاستقلال (مع أحمد بن صالح)، التي لم تكن في صالح تونس والاتحاد، حيث ساهمت التجربة في استفحال الدكتاتورية وتعطيل المجتمع المدني. ثالثا، يظل الاتحاد دائماً مع الحوار الذي يجب أن يكون شاملاً كل الحساسيات، وجدّياً من أجل حلول حقيقية، وليس لأغراض ومناورات جانبية، ولا يقبل أن يكون مرتهناً خارجياً، ويشارك فيه على هذا الأساس.

"أجندة" السبسي

رد الطاهري بوضوح على اللّبس الذي تعمّده السبسي في الخلط بين الاجتماعي والاقتصادي
من جهة، والسياسي من جهة أخرى، وأكّد أن "عدم الاستقرار السياسي ينعكس على الوضع الاقتصادي والاجتماعي"، وليس العكس كما روّجت المبادرة. وأشار إلى التدخّل الأجنبي الذي "يشخّص المسألة في الفشل السياسي في الحكم"، مركّزاً على أن إشكال الحكم ليس بدرجة أساسيةٍ في الأشخاص، بقدر ما هو في المشروع والبرامج والتوجهات، واتضح بذلك أن الاتحاد لم يترك "أجندة" الرئيس تمر من دون "ضبط" و"تعديل" و"تصويب" نحو الهدف المبتغى، وضبط بذلك دوره المركزي قوّة تعديل وتوازن وطني، وإنقاذ عند الضرورة، وهو الدور الذي سيخسره، إن تورّط في السلطة، من خلال مبادرةٍ لم تتضح كل خفاياها، ولم يقع التحضير لها بعناية، ولم يشرك فيها الاتحاد في انطلاقتها، وحتى رئيس الحكومة فوجئ بها على الهواء، وخصوصاً أن "لائحة اللّوم" كانت على المباشر.
وفي كل الحالات، الاتحاد التونسي العام للشغل منظمة وطنية نقابية، وليس حزباً، ولا يطرح نفسه بديلاً للحكم، ولا شريكا في ذلك. وإذ يرفض المشاركة المباشرة، فهو أيضاً يرفض المشاركة غير المباشرة، عبر اقتراح أسماء للمشاركة في الحكومة، حتى تظل مسؤولية الحكم محمولةً على الحكومة والأحزاب المؤلفة لها. ولكن يظل حقه ودوره في التشخيص والنقد وتقديم البدائل والبرامج أساسياً، وحقه أيضاً ثابت في إبداء الرأي في الوزراء، والاعتراض عندما تكون هناك ضرورة قصوى مبرّرة، وخطر جليّ يمكن أن يمسّ الوطن ومصلحته العليا. وبذلك، يرسم حدود العلاقة بين السياسي والنقابي. ولكن، مع "امتياز" يخص الاتحاد مالكاً لشرعية المشاركة في التحرير والبناء، وفي الثورة والإنقاذ، ومتوّج دولياً بجائزة نوبل للسلام التي تفوق الإخلالات والانحرافات التي شابت مسيرته في الستينات، وفي حكم المخلوع بن علي، والتي صححها بعد نقد ذاتي.

مؤشرات واقعية ومخاطر المشاركة

كان الاتحاد سيخسر هذه المكانة كـ"أكبر قوة في البلاد"، وهذا الرصيد، وهذا الموقع، لو
استجاب لدعوة السبسي الملغومة، وتجاذبه بين النقابي والسياسي سيقوده إلى تفكك داخلي خطير، وخصوصاً أنه على أعتاب مؤتمره العام، نهاية هذه السنة، وما يستوجبه من استحقاقات كبرى، وسيجعل دوره النقابي ومساهمته في الدفاع عن الحقوق والحريات تتآكل، ويدخل في مسارٍ يصعب تجاوزه وتخطيه في ما بعد، وسيصعب محو آثاره السلبية، بل عميقة السلبية، وسيكون الجميع خاسرين، وخصوصاً أن كل المؤشرات تقود إلى فشل للحكومة المقبلة مع استمرار السياسات الاقتصادية والاجتماعية نفسها، المملاة من صندوق النقد الدولي التي تورطت فيها تونس، والتي قادت إلى الفشل، وفجرت الثورة وتستمر إلى اليوم، وقبل ذلك الغرق في الصراع على الكعكة والحصص وتنازع انطلق في الحين، على ترؤس الحكومة من أحزاب الرباعي المتنافرة في ما بينها، وأغلبها بلا مؤتمر تأسيسي.. ويبدو أن كلفة فترة "الانتقال" ستكون باهظة، وستحدث انهياراً غير هيّن.
وما يؤكد هذه المعاينة التشخيص المغالط للسبسي لحقيقة الانهيار السياسي الحاصل، والمتسببين فيه، وإلقائه المسؤولية على الآخرين، وعدم الاعتراف بأي إخفاقٍ أو دور في الفشل، وعدم الإقرار بالانحياز ضد بعض الأحزاب التي اتهمها بالتحريض على العنف من دون حجة، وحتى داخل حزبه الأم، وكأن كل الوعود التي قدمها مع حزبه لإنقاذ تونس وتحقيق التنمية والاستثمار والتشغيل والأمن وغيرها كانت تهم بلدا آخر وحقبة أخرى.. وما دام التشخيص مضللاً، وما دام الغرض الأكبر من المبادرة تصدير الأزمة إلى الآخرين، وتوريط بعضهم، والتملص من المحاسبة السياسية، وقد يكون معها أيضاً محاولة لإعادة تشكيل موازين القوى داخل المشهد السياسي، وإيجاد مخرج لمأزق "نداء تونس"، وما دامت سياسات صندوق النقد الدولي ونهجه هو المتبع، والإرادة مفقودة في مكافحة الفساد والغش الجبائي والتهريب وتفكيك "اللوبيات" النافذة في الخصوص، واسترجاع الأموال المنهوبة، فلن يتحقق المخرج من التأزم المستفحل على الأغلب.
40035D75-6B9A-4D5A-B856-DBA6E619ED47
شكري بن عيسى

باحث قانوني واقتصادي تونسي