يُفضّل عددٌ من الكتّابٌ البقاء، في ما نراه نحن عتمةً، وفي ما يرونه هم هدأةً؛ بعيداً عن ضجيج المحيطين، وإطراءاتهم. ومن بين هؤلاء، الكاتبة الإيطالية، إيلينا فيرانتي، التي يكاد يغلب الاهتمام بهويتها الحقيقية، على الاهتمام بأدبها وإبداعها. اهتمامٌ شغل أغلب الدراسات التي تناولت أعمالها، فما بالك بتلك التي تتناول شخصيتها، والغموض المحيط بها، خصوصاً بعد بروز اسمها في عالم الأدب، داخل إيطاليا وخارجها.
هكذا، قلّما تجنّبت دراسة تتناولت أدب فيرانتي عموماً، أو عملاً من أعمالها، الخوض في مسألة هويتها الحقيقية، أو حتى الإشارة المسرعة إلى الأمر؛ فهي لم تُفصِح عن هويتها، منذ إصدارها أولى رواياتها عام 1992. ولأن هذا الشغف أصبح همّاً يومياً لقرّائها ولعدد كبير من النقاد، لا يكاد يمضي يوم من دون أن تجد مقالة حول الموضوع، وها هو ملحق "نيويورك ريفيو" للكتب يطالعنا، بداية هذا الشهر، بمقالة، يتحدّث كاتبها، الصحافي الإيطالي كلاوديو غاتي، عن اكتشاف هوية الكاتبة الحقيقية.
ولكن لماذا كل هذا الإصرار على معرفة هوية الكاتبة الحقيقية، عوضاً عن التعمّق في دراسة أدبها والتمتّع به، والذهاب إلى أبعد الحدود في التقاط تفاصيل حياة أزقّة مدينتها الأثيرة، والمهيمنة على أعمالها، نابولي، وبسطاء ناسها؟
لا بدّ أن الأمر يتعلّق بمجدٍ يترفّع شخصٌ ما عن العيش في ظلّه. إنها حالة غريبة وشديدة الندرة في زمننا الذي يستغلّ عديمو الموهبة الفرصَ، ويدفعون الأموال إلى صنّاع المشاهير لتقديم أنفسهم نجوماً، لا دفء يُرجى منها ولا ضوء.
الكاتبة، التي تُعتبر واحدة من أبرز كتّاب إيطاليا وأوروبا المعاصرين، وتُرجِمَت أعمالها إلى عشرات اللغات، وتصدّرت بعض رواياتها قائمة أكثر الكتب مبيعاً، كما ترشّحت لنيل عدد من الجوائز الأدبية، تفضِّل البقاء في الظّل، حتى أنها تتلقّى أسئلة المقابلات التي تُجرى معها عبر ناشر أعمالها، "دار إديزيوني إي/ أو" (Edizione e/o)، وتجيب عليها عبر البريد الإلكتروني. كل ذلك كان دافعاً لكثيرين، كي ينغمسوا أكثر في محاولات كشف شخصيتها، وتكريس هذا الهمّ، وهو ما ساهم في اتساع الهالة التي تحيط بها.
وبالعودة إلى التحقيق الذي نشره في ملحق "نيويورك ريفيو" للكتب، وصحف أخرى في إيطاليا وألمانيا، فقد ذهب غاتي إلى أن المترجمة الإيطالية أنيتا راجا، هي الكاتبة إيلينا فيرانتي؛ فهي تعمل لدى دار "إديزيوني إي/ أو"، ووُلدت في نابولي. لكن الخطير في التحقيق هو وصوله إلى حسابات دار النشر المصرفية، وربما حسابات راجا، وملاحظته ارتفاع المبالغ المحوّلة إليها بنسب كبيرة، مقارنةً بعملها الذي تؤدّيه لصالح الدار.
كما أنه نقَّب في السجلّات العقارية ليكتشف أن زوج راجا، الكاتب الإيطالي، دومينيكو ستارنوني، اشترى شقّة فاخرة في روما بمبلغ مليوني دولار. كما تحدّث الصحافي عن عناصر شبَه بين حياة راجا وبعض الحوادث التي وردت في روايات فيرانتي.
ولكن، في ظلّ عدم اعتراف المترجمة، راجا، ودار النشر، بما ورد في استقصاء غاتي، قد لا يُسلِّم القراء والمهتمّون بهذا الأمر، وهو ما حصل في تجارب اكتشافات سابقة لم تنفها الكاتبة ولم تثبتها؛ إذ سبق وأعلن الكاتب الإيطالي والمدرّس الجامعي، ماركو سانتاغاتا، في شهر مارس/ آذار الماضي، اكتشاف هوية الكاتبة الحقيقية، من خلال بحث استقصائي نشره في مقالة في صحيفة "كوريرا دي سيرا" الإيطالية.
ويُعد عمل سانتاغاتا استكمالاً لسلسلة افتراضات سبقته ولم تنقطع، طارحةً أسماء الشخصيات التي يمكن أن تكون هي، أو هو، الكاتب الحقيقي لروايات فيرانتي. فبعد دراسة معمّقة، ومقاطعة كثير من المعطيات، توصّل إلى أن الأستاذة الجامعية المتخصّصة في التاريخ، مارشيلا مارمو، هي فيرانتي.
وإضافةً إلى أن كِليهما من نابولي، وردت حوادث وقعت في جامعة بيزا في الستينيات، وتواريخ ومواقع وأسماء في روايات الكاتبة، خصوصاً الروايات "النابوليتانية": "صديقي الرائع" و"قصة اسم جديد" و"المغادرون والباقون" و"قصّة الطفل المفقود"، وهي حوادث لم يعايشها طالبٌ من نابولي في مدينة بيزا سوى مارمو، كونها كانت الطالبة الوحيدة من نابولي التي درست في "جامعة بيزا" في تلك الفترة، غير أن مارمو، وناشر روايات فيرانتي، نفَيا هذا الادعاء.
لكن صحيفة "الغارديان" البريطانية، التي استعرضت مقالة غاتي، التقطت ما صدر عن كثير من القرّاء والمهتمين بالأدب حول العالم، ردّاً على الادعاء، وأجْمَلَته في جملة على لسانهم مفادها: "لماذا شَعَرَ (غاتي) بالحاجة إلى القيام بهذا الأمر؟".
وفي ردّ إحدى الكاتبات الإيطاليات حول سؤالٍ لي عن الأمر، قالت إنه بسبب كثرة الخوض في هذا الموضوع، لم يعد الناس يبالون بالتحقيقات التي تجري، مضيفةً أن الخطير في تحقيق غاتي هو وصوله إلى الحسابات المصرفية للكاتبة ودار النشر، ومعرفته التحويلات المالية بينهما، وهو اختراق يجعل عمله يبدو بعيداً عن الأخلاق الصحفية، أو حتى القيم الأخلاقية عموماً، فهل المهم كسب الشهرة عبر إفشاء أسرار الآخرين الأكثر حساسية؟
غير أن الردّ الأبلغ على كل تلك التساؤلات والتخمينات، كرّرته فيرّانتي سابقاً، وهي التي تبدو أنها من أنصار نظرية "موت المؤلف" في الأدب، حين قالت في إحدى لقاءاتها الصحفية: "لا تعود الكتب بحاجة إلى مؤلّفيها بعد أن تُكتب"، وهي جملة تُعتبر بمثابة الدعوة لاحترام حياتها الشخصية وإبعادها عمّا يترتّب من متاعب الشهرة.
ذلك أيضاً ما شدّد عليه معلّقون في الصحف الإيطالية التي شهدت، كحال الإعلام الإيطالي عموماً، خلال ثلاثة أيام، بعد نشر تحقيق غاتي، ما يشبه الخضّة التي شارك فيها الجميع. وكان لافتاً أن أغلب المشاركين في النقاشات الحيّة أو المعلّقين على صفحات التواصل الاجتماعي بدوا مسلِّمين بقرار الكاتبة البقاء في العتمة، أو الهدوء، مع إظهارهم الاحترام لخيارها، فما يهمّ هو أدب الكاتب، وليس أسلوب حياته.