10 مايو 2024
إيران وإسرائيل.. خطران من الشرق والغرب
عزام أمين
كاتب وباحث سوري، دكتوراة في علم النفس الاجتماعي، مدرس في معهد الدوحة للدراسات العليا
كثيراً ما يثير السؤال: أيّهما أخطر على المجتمعات العربيّة، إيران أم إسرائيل؟ الجدل والخلافات والتشنّجات والتناقضات بين المتحاورين. وبطبيعته، يولّد هذا التساؤل أسئلة أُخرى، وجوديّة، متعلّقة بطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي وأولويّته، ومن نحن، وماذا نريد؟
يقدّم بعضهم إيران خطراً متخفّياً قادماً من الشرق لا يقل خطورةً عن إسرائيل، لا بل يعتبرها أخطر؛ ويصرّ آخرون على أنّ العدو الأولّ للمجتمعات العربية، وأسّ مشكلاتها، من تخلف وفقر وقهر واستبداد وتشرذم، هي إسرائيل.
بدأ هذا الجدل منذ اتضاح النيات الإيرانية، وهيمنتها على ما يمكن تسميته "القرار الشيعي " العربي، وفصله عن هويته العروبية لمصلحة الوجه الفارسي الإيراني، تزامناً مع التغييب الغامض للإمام موسى الصدر في أغسطس/آب 1978 في ليبيا، والثورة الإيرانية التي بدأت في عام 1977 وانتهت عام 1979 بوصول الخميني إلى سدّة الحكم، والحرب العراقية الإيرانية التي بدأت في سبتمبر/ أيلول 1980. ولكنّ النقاش تأجج مع بداية ثورات الربيع العربي، وتدخّل إيران الصريح في أحداثه، وبروز دورها الرئيس في المنطقة، وسيطرتها المباشرة أو غير المباشرة على أربع عواصم عربية، حتّى الآن.
وبغض النظر عن السؤال المطروح أعلاه، يمكن بسهولة ملاحظة أنّ الوقوف ضد إسرائيل
ومشروعها في العالم العربي أمرٌ سَهلٌ وبديهيٌّ، ولا يتطلّب جهداً في التفكير، ولا أيّ تحليل استراتيجي أو مقاربة لسياقها أو سيرورتها التاريخية، فإسرائيل، كما قالها أحدهم هي "كيانٌ خارجٌ عنّا تمامًا، هويَّته مغايرة، ولغته منفصلة، احتلالٌ خارجي، وهو نظام عنصري ليس له علاقة بصراعنا الطائفي أو بعفن الأفكار المُعتنقة في أوساطنا. والكثير من الجماعات، والأفكار، والأحزاب، تشكّلت على قاعدة عداء إسرائيل".
إذن، هي مشروع من خارج الجماعة، وضدّها، ولذلك رفضها يسير وحتمي، ولم تنقسم مجتمعاتنا العربية على نفسها وتتصارع بسبب إسرائيل، بحسبان أنَّ الكلّ موحدٌ ضدها ومتفق على خطورتها. ويندر أنّ نعثر على أفرادٍ أو تجمعاتٍ وقوى محليّة وعربية، يمكن أن تدافع عن إسرائيل، وجوداً أو مشروعاً، وتتبنّى قضية الدفاع عنها.
في حين أن المشروع الإيراني الفارسي يشبهنا إلى حدٍّ ما، ويعتبره بعضهم مشروعاً قريباً علينا؛ لا بل ثمّة من يعتبره منّا، وهنا خطورته. لقد تسلل المشروع السياسي الإيراني في حصان طروادة من المزاعم المذهبية والعدائية لإسرائيل، واستولى على كل شيءٍ في بعض مجتمعاتنا العربية؛ وهذا ما لم تنجح به إسرائيل حتى الآن. إيران، وسعياً منها إلى تحقيق أهدافها السياسية (طَأفَنَت) المجتمعات العربية مذهبياً، وعزّزت فرقة دينية على أخرى بالمال والسلاح، وكرّست ثقافة التخوين حتى تمكّنت من تذريرها، وأحدثت شروخاً عميقة حتّى على مستوى الأسرة الواحدة. ويلحظ المتابع المتأنّي والموضوعي أنَّ ما نكأته إيران من جراحاتٍ وحساسيات في كل من العراق واليمن وسورية ولبنان والسعودية والبحرين والكويت عجزت عنه الآلة الحربية الإسرائيلية ومنظومة دعايتها وجواسيسها.
من كان يعتقد في سورية، على سبيل المثال، أنّه يمكنك وأنت تمشي في شوارع دمشق، أن ترى المواكب الحسينيّة وتسمع اللطميات التي بات يتقبّلها حتى من لم يكونوا يوماً شيعة؟ من كان يتصوّر سماع شيلات ولطميات شيعيّة في مدينة سلمية، المعروفة بتوجهها العروبي واليساري، بعد أن كانت تصدح شوارعها وزواريبها بأغاني مارسيل خليفة والشيخ إمام وشعر مظفر النواب؟! يبدو أنّ التطبيع مع المشروع الإيراني سهلٌ، ولا يحتاج تنازلات نفسيّة كثيرة، على عكس المشروع الإسرائيلي المختلف والبعيد تماماً.
حين استوردت مصر البيض الإسرائيلي ممهوراً بنجمة داوود امتنع عامة الشعب المصري عن شرائه، وحين تمت معالجة النجمة بالغسل، وأُعيد البيض إلى الأسواق، كان المواطن المصري يحمل البيضة ويرفعها إلى الشمس، كي يعاين أثر الختم عليها، ليتخذ بناءً على نتيجة معاينته هذه قرار رفض شرائها في حال تبين أنّها من إسرائيل. في الوقت نفسه، ثمّة من العرب من يتفاخر بالعلم الإيراني والانتماء للمشروع الإيراني! وهذا يقود بالضرورة إلى تقرير أن وعي خطورة المشروع السياسي الإيراني يحتاج مراجعات فكريّة نقديّة وطائفيّة ويقظة، وبعداً في النظر وتحليلاً أكثر عمقاً وتركيباً من مثيله المتعلق بالمشروع الإسرائيلي. فهو، أي المشروع الإيراني حامل لأيديولوجيا وأفكار يؤمن بها بعض من أبناء مجتمعاتنا العربية، أضف إلى أنّه يدّعي مقاومة إسرائيل التي نرفضها بدون أدنى نقاش وجدانياً ووجودياً. أيّهما، إذن، أخطر على الهُويّة العربية؟
في سياق الإجابة على السؤال، ثمّة من يتساءل عن أهميّة العامل الديمغرافي، فتعداد سكان
إسرائيل حوالي ثمانية مليون بينما إيران حوالي 80 مليوناً. وبناءً عليه، فإن نقطة ضعف المشروع الصهيوني في هذا العامل، هذا يعني إمكانية امتصاصه وتذويبه عربياً. بينما نقطة قوّة المشروع الإيراني قدرته على امتصاصنا ديموغرافياً وتذويبنا فكرياً. يجزم عراقيون كثيرون أن حملة تصفية العلماء العراقيين التي شهدها بلدهم بعد الاحتلال الأميركي في عام 2003 وشيوع الفوضى كانت بأيدٍ إيرانية، وفق حسابات استراتيجية دقيقة بعيدة المدى، تقضي بتحطيم بنية هذا البلد اجتماعياً واقتصادياً وعلمياً لتسهل السيطرة المديدة عليه. ألا تذكرنا هذه الاغتيالات بالحملات التي شنتها إسرائيل عبر جهاز الموساد على مثقفين وعلماء فلسطينيين كثيرين؟
وأول من استشرف خطورة المشروع السياسي الإيراني، وحذّر منه، هو الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر، حين نشرت صحف يوم الجمعة 2 سبتمبر/ أيلول 1977 تصريحات له إنّ "الشيعة في لبنان لبنانيون عرب مسلمون قبل كل شيء، وأنّ الربط السياسي بينهم وبين أي بلد آخر غير لبنان، سيما البلاد غير العربية، خطر كبير بل خطيئة. وهل نشكو في لبنان، من قلة الولاءات حتى نحاول إضافة محور سياسي جديد؟". ويتابع السيد الصدر قائلاً "أرجو أن يفهم هذا الموقف من قبل الجميع، لبنانيين وعرباً وايرانيين، ومن قبل بعض السياسيين الذين يتاجرون بهذه العلاقات ويستفيدون منها على حساب الوطن وعلى حساب الطائفة. فليهنأوا بعيشهم، وجنبنا الله مثل هذا العيش".
وربما يقول أحدهم: أليس طرح سؤال "أيهما أخطر علينا المشروع الإيراني أم الصهيوني؟" والمقارنة بينهما خطأً كبيراً؟ نعم، هذا صحيح، فالجذور والسياقات لكل منهما مختلفة بالتأكيد، والخطأ الأكبر أن يُطرح هذا السؤال، وتستخدم هذه المقارنة من أجل تفضيل أحدهما على الآخر، فعدو عدويّ ليس بالضرورة صديقي، خصوصاً إذا كان الخلاف بينها قائماً على أحقية كل منهما بالسيطرة عليّ.
يقدّم بعضهم إيران خطراً متخفّياً قادماً من الشرق لا يقل خطورةً عن إسرائيل، لا بل يعتبرها أخطر؛ ويصرّ آخرون على أنّ العدو الأولّ للمجتمعات العربية، وأسّ مشكلاتها، من تخلف وفقر وقهر واستبداد وتشرذم، هي إسرائيل.
بدأ هذا الجدل منذ اتضاح النيات الإيرانية، وهيمنتها على ما يمكن تسميته "القرار الشيعي " العربي، وفصله عن هويته العروبية لمصلحة الوجه الفارسي الإيراني، تزامناً مع التغييب الغامض للإمام موسى الصدر في أغسطس/آب 1978 في ليبيا، والثورة الإيرانية التي بدأت في عام 1977 وانتهت عام 1979 بوصول الخميني إلى سدّة الحكم، والحرب العراقية الإيرانية التي بدأت في سبتمبر/ أيلول 1980. ولكنّ النقاش تأجج مع بداية ثورات الربيع العربي، وتدخّل إيران الصريح في أحداثه، وبروز دورها الرئيس في المنطقة، وسيطرتها المباشرة أو غير المباشرة على أربع عواصم عربية، حتّى الآن.
وبغض النظر عن السؤال المطروح أعلاه، يمكن بسهولة ملاحظة أنّ الوقوف ضد إسرائيل
إذن، هي مشروع من خارج الجماعة، وضدّها، ولذلك رفضها يسير وحتمي، ولم تنقسم مجتمعاتنا العربية على نفسها وتتصارع بسبب إسرائيل، بحسبان أنَّ الكلّ موحدٌ ضدها ومتفق على خطورتها. ويندر أنّ نعثر على أفرادٍ أو تجمعاتٍ وقوى محليّة وعربية، يمكن أن تدافع عن إسرائيل، وجوداً أو مشروعاً، وتتبنّى قضية الدفاع عنها.
في حين أن المشروع الإيراني الفارسي يشبهنا إلى حدٍّ ما، ويعتبره بعضهم مشروعاً قريباً علينا؛ لا بل ثمّة من يعتبره منّا، وهنا خطورته. لقد تسلل المشروع السياسي الإيراني في حصان طروادة من المزاعم المذهبية والعدائية لإسرائيل، واستولى على كل شيءٍ في بعض مجتمعاتنا العربية؛ وهذا ما لم تنجح به إسرائيل حتى الآن. إيران، وسعياً منها إلى تحقيق أهدافها السياسية (طَأفَنَت) المجتمعات العربية مذهبياً، وعزّزت فرقة دينية على أخرى بالمال والسلاح، وكرّست ثقافة التخوين حتى تمكّنت من تذريرها، وأحدثت شروخاً عميقة حتّى على مستوى الأسرة الواحدة. ويلحظ المتابع المتأنّي والموضوعي أنَّ ما نكأته إيران من جراحاتٍ وحساسيات في كل من العراق واليمن وسورية ولبنان والسعودية والبحرين والكويت عجزت عنه الآلة الحربية الإسرائيلية ومنظومة دعايتها وجواسيسها.
من كان يعتقد في سورية، على سبيل المثال، أنّه يمكنك وأنت تمشي في شوارع دمشق، أن ترى المواكب الحسينيّة وتسمع اللطميات التي بات يتقبّلها حتى من لم يكونوا يوماً شيعة؟ من كان يتصوّر سماع شيلات ولطميات شيعيّة في مدينة سلمية، المعروفة بتوجهها العروبي واليساري، بعد أن كانت تصدح شوارعها وزواريبها بأغاني مارسيل خليفة والشيخ إمام وشعر مظفر النواب؟! يبدو أنّ التطبيع مع المشروع الإيراني سهلٌ، ولا يحتاج تنازلات نفسيّة كثيرة، على عكس المشروع الإسرائيلي المختلف والبعيد تماماً.
حين استوردت مصر البيض الإسرائيلي ممهوراً بنجمة داوود امتنع عامة الشعب المصري عن شرائه، وحين تمت معالجة النجمة بالغسل، وأُعيد البيض إلى الأسواق، كان المواطن المصري يحمل البيضة ويرفعها إلى الشمس، كي يعاين أثر الختم عليها، ليتخذ بناءً على نتيجة معاينته هذه قرار رفض شرائها في حال تبين أنّها من إسرائيل. في الوقت نفسه، ثمّة من العرب من يتفاخر بالعلم الإيراني والانتماء للمشروع الإيراني! وهذا يقود بالضرورة إلى تقرير أن وعي خطورة المشروع السياسي الإيراني يحتاج مراجعات فكريّة نقديّة وطائفيّة ويقظة، وبعداً في النظر وتحليلاً أكثر عمقاً وتركيباً من مثيله المتعلق بالمشروع الإسرائيلي. فهو، أي المشروع الإيراني حامل لأيديولوجيا وأفكار يؤمن بها بعض من أبناء مجتمعاتنا العربية، أضف إلى أنّه يدّعي مقاومة إسرائيل التي نرفضها بدون أدنى نقاش وجدانياً ووجودياً. أيّهما، إذن، أخطر على الهُويّة العربية؟
في سياق الإجابة على السؤال، ثمّة من يتساءل عن أهميّة العامل الديمغرافي، فتعداد سكان
وأول من استشرف خطورة المشروع السياسي الإيراني، وحذّر منه، هو الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر، حين نشرت صحف يوم الجمعة 2 سبتمبر/ أيلول 1977 تصريحات له إنّ "الشيعة في لبنان لبنانيون عرب مسلمون قبل كل شيء، وأنّ الربط السياسي بينهم وبين أي بلد آخر غير لبنان، سيما البلاد غير العربية، خطر كبير بل خطيئة. وهل نشكو في لبنان، من قلة الولاءات حتى نحاول إضافة محور سياسي جديد؟". ويتابع السيد الصدر قائلاً "أرجو أن يفهم هذا الموقف من قبل الجميع، لبنانيين وعرباً وايرانيين، ومن قبل بعض السياسيين الذين يتاجرون بهذه العلاقات ويستفيدون منها على حساب الوطن وعلى حساب الطائفة. فليهنأوا بعيشهم، وجنبنا الله مثل هذا العيش".
وربما يقول أحدهم: أليس طرح سؤال "أيهما أخطر علينا المشروع الإيراني أم الصهيوني؟" والمقارنة بينهما خطأً كبيراً؟ نعم، هذا صحيح، فالجذور والسياقات لكل منهما مختلفة بالتأكيد، والخطأ الأكبر أن يُطرح هذا السؤال، وتستخدم هذه المقارنة من أجل تفضيل أحدهما على الآخر، فعدو عدويّ ليس بالضرورة صديقي، خصوصاً إذا كان الخلاف بينها قائماً على أحقية كل منهما بالسيطرة عليّ.
دلالات
عزام أمين
كاتب وباحث سوري، دكتوراة في علم النفس الاجتماعي، مدرس في معهد الدوحة للدراسات العليا
عزام أمين
مقالات أخرى
05 ابريل 2023
02 مايو 2022
21 مارس 2020