مع دخول الأزمة السورية عامها الخامس، يبدو الحضور الإيراني فيها أوضح أكثر من أي وقت مضى. عسكرياً وسياسياً، صارت طهران كأنها الحاكم الفعلي. يومياً، تزج طهران بالمزيد من الرجال والعتاد والأموال والجهد السياسي في الحرب السورية، سواء بالأصالة عبر الحرس الثوري والمستشارين العسكريين، أم بالوكالة عبر حزب الله والمليشيات التي تم تجنيدها من بلدان عديدة، بخاصة العراق.
اكتفت طهران في البداية، بإرسال مستشارين عسكريين إلى دمشق والمناطق الساخنة الأخرى، لكنها عمدت بعد ذلك إلى تدريب آلاف العناصر التابعين للنظام في أراضيها، بعدما تبين افتقادهم للخبرة في قمع الثورات الشعبية، لكنها في الواقع كانت تخطط لأن تكون تلك العناصر، والتي سميت لاحقاً (الدفاع الوطني)، جزءاً من منظومة عسكرية وأمنية أشمل تعمل على إقامتها لمساعدتها في فرض سيطرتها على البلاد، في حال انهيار نظام بشار الأسد بشكل كلي. منظومة تضم أيضا مقاتلي حزب الله والمليشيات الشيعية الأخرى، والعناصر العسكرية الإيرانية نفسها، تحت المظلة المالية والسياسية الإيرانية.
اقرأ أيضاً: حزب الله يخوض معركة إنهاء الجيش الحر بريف درعا
منذ العام الثاني للثورة السورية، زاد حجم الانخراط الإيراني في مجرياتها، وهو ما حال دون سقوط النظام، في منتصف ذلك العام مع الاندفاعة العسكرية الرئيسية لقوات المعارضة في دمشق وحلب، فأوعزت إيران لحزب الله بالتدخل الواسع في أكثر من منطقة، وكان الأبرز مشاركته العلنية لأول مرة في معارك القصير بريف حمص.
إضافة إلى حزب الله، سعت طهران إلى تجنيد آلاف المقاتلين العراقيين والأفغان وغيرهم على أساس طائفي. لكن انسحاب كثير من المقاتلين العراقيين من سورية بعد اشتعال الأوضاع في العراق، إضافة إلى ضعف تأهيل المقاتلين الآخرين، والنجاحات التي حققتها قوات المعارضة السورية في أكثر من جبهة، دفع طهران إلى الانخراط بصورة أكبر في الحرب السورية، من خلال الحرس الثوري الإيراني مباشرة، ممثلاً خصوصاً بفيلق القدس وقائده قاسم سليماني، الذي بات يشكل رمزاً للتدخل الإيراني في كل من سورية والعراق. وتخوض طهران اليوم بشكل مباشر تقريباً، معركتين كبيرتين في حلب شمالي البلاد وفي درعا جنوبها، وهي تحاول الإفادة من الحرب على تنظيم "داعش" عبر تسهيل مهمة التحالف الدولي ضده، ودعم القوات العراقية ومفاوضاتها النووية مع واشنطن والدول الكبرى، لتقديم نفسها في سورية كضامن لأمن الأردن والخليج وإسرائيل، في وجه تمدد "داعش" والقوى المتطرفة، مقابل غض النظر من جانب الولايات المتحدة ودول المنطقة عن زيادة حضورها في الساحة السورية، سواء مع تواصل "الوجود الشكلي" لنظام الأسد، أم في حال الانهيار التام لهذا النظام.
اقرأ أيضاً: استثمار إيران في سورية... بمعزل عن مصير الأسد
تدرك إيران أن ضعف الوجود الديمغرافي الشيعي في سورية (نحو 1.5 في المئة من السكان، بينما لا يعتبر العلويون شيعة بالمعنى الديني) يتركها قوة غريبة وافدة إلى مجتمع سني في مجمله، لا يحمل مشاعر ودية تجاهها، بخاصة مع تصاعد الاستقطاب الطائفي في المنطقة.
لذلك، فإن إيران تسعى إلى تعويض ذلك بعدة طرق: بناء قوات "الدفاع الوطني"، ويقدر عددها حاليا بنحو مائة ألف مقاتل، وهي خليط من العلويين وشباب مهمشين من السنة، وإعطاء دور رئيسي لحزب الله في القتال والقيادة والتدريب والتخطيط الميداني في سورية، واستقدام مقاتلين شيعة من عدة بلدان، وتشجيع حركة التشييع في العديد من المناطق السورية، عبر الإفادة من أجواء الخوف والملاحقة التي تطال غير الشيعة في مناطق سيطرة النظام، وعبر الإغراء المادي، وظروف الجوع والحصار.
كما تستثمر إيران الرغبة الجامحة لدى إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، بالتوصل إلى اتفاق حول برنامجها النووي، لزيادة نفوذها الإقليمي، بحيث تغض واشنطن النظر عن الدور الإيراني المتضخم في العراق وسورية، على أمل أن تتوج المفاوضات النووية بالتوقيع على اتفاق "تاريخي"، يعتبر الانجاز السياسي الأكبر له خلال فترتي رئاسته.
اقرأ أيضاً: عباس عبد إلهي: إيراني يقود قوات الأسد
وهذا ما دفع رئيس الائتلاف السوري خالد خوجة، إلى الاستغراب خلال زيارته الأخيرة إلى فرنسا، من إصرار إدارة اوباما على الربط بين القضية السورية والملف النووي الإيراني، خلافاً لكل من "فرنسا وألمانيا وتركيا التي لديها علاقات مع إيران، وهي داعمة للثورة السورية، وكلها تفصل بين الملف النووي الإيراني وما يحصل في سورية".
لعل أكثر من يشعر بالقلق إزاء هذه الخطط الإيرانية هو النظام السوري نفسه، إذ يدرك أن طهران، وإن كانت تساعده ظاهراً على مواجهة أعدائه عسكرياً ومالياً وسياسياً، لكنها لن تتمسك به حالما تنتهي من بناء "نظام بديل"، تعمل عليه منذ وقت في الظل، يكون تحت سيطرتها المباشرة، ولن تتأخر في التخلي عنه، حالما تحصل على مباركة دولية وإقليمية للنظام الجديد الذي تسعى إلى تقديمه كبديل مقبول بالنسبة للخارج، بحيث يصبح الخيار: إما داعش أو نظام ممسوك من جانب دولة مقتدرة وحاضرة ميدانياً مثل إيران، ولا مانع أن تكون واجهته من بقايا النظام الحالي، بوجود أو عدم وجود بشار الأسد. معادلة قد تكون بالنسبة لجزء من الخارج، أفضل من المطروح حالياً، أي إما داعش أو نظام الأسد.
اقرأ أيضاً: دمشق: مراسم "عاشوراء" غير مسبوقة واستنفار أمني
إضافة إلى النظام السوري، ثمة قلق ليس خفياً من جانب روسيا التي ترى في إيران "شريكا" يحاول أن يجني وحده، نتائج الدعم المشترك للنظام السوري. وبينما دعمت روسيا النظام عسكرياً وغطته سياسياً وساندته مالياً، فإن طهران عملت إضافة إلى ذلك، على التمدد الميداني عبر المليشيات الموالية، وعبر عسكرها الموجود على الأرض، ما جعل لها أفضلية على روسيا، وتاليا قدرة أكبر على التحكم بمجريات الأمور. وفي وقت يتلاشى نفوذ روسيا الذي كان يتمركز في مؤسسة الجيش، بسبب الدمار الذي لحق بهذه المؤسسة، ومع تدهور علاقات موسكو بالغرب بسبب الأزمة الأوكرانية، فان إيران حسنت مواقعها في سورية، وبنت "جيشا رديفا" من (الدفاع الوطني) والمليشيات تتحكم به وحدها، وتسعى لأن تكون له كلمة الفصل في تقرير مستقبل البلاد.
كما تعمل إيران على خلق فئة جديدة من "المستفيدين" من وجودها في سورية، عبر التوسع في شراء العقارات وبناء المزارات الدينية في العديد من المدن السورية، ودعم طبقة جديدة من رجال الأعمال الذين اثروا من الأزمة الحالية، سواء عبر العمولات التي يتقاضونها من التحايل على العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على النظام، أم من خلال احتكار المواد الأساسية ورفع الأسعار، والمتاجرة بحاجات مئات الآلاف ممن يعيشون في المناطق التي تحاصرها قوات النظام.
هذا الحضور الإيراني العلني والمكثف، دفع الائتلاف الوطني السوري، إلى إعداد مذكرة ستقدم للقمة العربية التي تعقد نهاية الشهر الحالي في مصر، لمطالبتها بالمساعدة في إخلاء سورية مما سمّته "الاحتلال الإيراني"، بعدما تحولت العلاقة بين نظام الأسد وطهران من تحالف إلى احتلال إيراني مباشر لأجزاء واسعة من البلاد. وبدأ معارضون سوريون باستخدام مصطلح "الاحتلال الإيراني"، لوصف الوجود الإيراني في سورية، كما أطلق ناشطون حملة باسم "عاصمة الأمويين لن تكون فارسية".
اقرأ أيضاً: "المقاومة العقائدية"... ذراع إيران في حماه