مع انطلاق فصل الربيع، يحتفل الإيرانيون بعيد رأس السنة الفارسية "نوروز". وأمس، في العشرين من مارس/ آذار، وفي تمام الساعة السابعة مساءً والدقيقة الخامسة والأربعين والثانية الثامنة والعشرين، اجتمع الإيرانيون حول سفرة السينات السبع لاستقبال العام الجديد. عند ذلك الوقت، حلّ الاعتدال الربيعي متزامناً مع انطلاق عام 1397 الهجري الشمسي، بحسب التقويم الذي يعتمده الإيرانيون.
والإيرانيون كانوا قد بدأوا يتحضّرون للعيد قبل شهر من حلوله تقريباً، لا سيّما أنّ احتفالاته تمتد على أيام عدّة، منذ ليلة الأربعاء الأخير من العام الذين ينقضي وحتى اليوم الثالث عشر من العام الجديد. والطقوس المتّبعة هي نفسها منذ أجيال، وإن سُجّلت اختلافات عدّة.
وكانت البداية مع تنظيف البيوت قبل حلول العيد، هو أمر متعارف عليه في إيران كما في بلدان كثيرة، إذ إنّ الأقارب يتبادلون الزيارات خلال العيد. لكنّ هذه العادة لدى الإيرانيين تحمل معاني تعود إلى زمن بعيد، فالمياه ترمز إلى الطهارة والإيرانيون اعتادوا رشّها بعضهم على البعض، وذلك في طقس يدلّ على ضرورة التطهّر قبل بدء عام جديد. واليوم، يحرصون على إزالة الغبار جيداً وتجديد الأمكنة، فكلمة "نوروز" تعني "يوم جديد"، وكلّ ما يقوم به الإيرانيون مرتبط كثيراً بهذا المعنى.
وإيرانيون كثر كانوا قد بدأوا عطلتهم ليلة يوم الأربعاء الأخير من العام الذي يُعرف بـ"الأربعاء الأحمر"، بينما اضطرّ آخرون يعملون في الدوائر الرسمية وغيرها من المؤسسات إلى تأجيلها حتى اليوم، أوّل أيام العام الجديد. وفي ليلة "الأربعاء الأحمر"، تشعل النار عادة وتطلق الألعاب النارية. فالنار لطالما مثّلت الحكمة بالنسبة إلى الإيرانيين الذين يقفزون فوقها للتخلص من الأمراض والنحس، وللأمر معان مرتبطة بأساطير فارسية وبالديانة الزرادشتية التي عرفتها إيران القديمة. وما يفعله شباب اليوم ممن يحيون هذا الطقس بالذات، لا يرتبط بالمعتقدات القديمة بقدر ما يعني الحفاظ على الطقوس.
تختار سمكة العيد (عطار كناري/ فرانس برس) |
إلى ذلك، راح الإيرانيون يجهزون سفرتهم الخاصة باحتفال رأس السنة، وقد ضمّنوها سبعة أشياء تبدأ بحرف السين، كلّ واحدة منها ترمز إلى أمر ما، وتبقى إلى حين انتهاء الأيام الثلاثة عشر التي تعقب رأس السنة. وبحسب العادة، يشتري الإيرانيون سمكة حمراء توضع في حوض على تلك الطاولة وهي رمز للحياة، كذلك يضعون قرآناً أمام مرآة وبين شمعتين مضاءتين تدلّ كلّها على النور.
وأمس، في لحظة الاعتدال الربيعي، راح الإيرانيون يتلون دعاءً خاصاً خلال تجمّعهم حول السفرة، قبل أن يتناولوا عشاءهم، وهو سمك بحسب ما تقتضي الطقوس. وفي وقت لاحق، بالنسبة إلى الذين أنهوا باكراً احتفال العيد حول سفرة السينات السبع، انتقلوا إلى زيارة بعض الأقارب، ذلك من واجبات العيد الأولى التي تستمر طيلة الأيام التالية.
يخبر محمود مهاجر أنّ "العائلات بمعظمها تجهّز الملابس الجديدة وتجدد ما يمكن تغييره في المنزل. فهذا هو المعنى الأساسي الذي يقوم عليه النوروز". يضيف مهاجر، لـ"العربي الجديد"، أنّ "الإيرانيين يتمنّون عاماً مليئاً بالبركة مع حلوله، ثمّ يذهبون لزيارة من هم أكبر سناً في العائلة للحصول على مباركتهم، من دون أن ينسوا العيدية". ويتابع أنّه بعد انتهاء هذه الزيارات التي يُطلق عليها اسم "ديد"، ينتظر الذين ذهبوا لزيارة الأكبر سناً ردّ الزيارة التي تسمّى "بازديد". ويؤكد أنّ "أيام العيد تمضي بمعظمها من خلال تبادل الزيارات بين الأقارب، حتى لو كانوا يقطنون في مدن ثانية. وكل ذلك في أجواء إيجابية".
من جهتها، ترى مينا كيكاني أنّ "لعيد النوروز أهمية تاريخية كبيرة. كذلك فإنّ زيارة بيوت من هم أكبر سناً أمر لا يمكن تجاوزه في الأيام الأولى التي تلي رأس السنة. لذا يتوجّه أفراد العائلة وهم يرتدون ملابسهم الجديدة لزيارة أقاربهم الكبار والحصول على العيدية، بالإضافة إلى حرص العائلات على زيارة قبور موتاها". وتشير لـ"العربي الجديد"، إلى أنّه "في السابق، كان بعض أفراد العائلة يقصدون أهل المتوفي لجعلهم يخلعون ثياب الحداد مع حلول العيد. فالعام الجديد يعني استمرار الحياة".
وتحاول كيكاني إجراء مقارنة بسيطة بين أجواء العيد السائدة اليوم وبين ما عاشته في طفولتها، فتقول إنّ "الأمور اختلفت قليلاً على الرغم من أنّ الطقوس حيّة. فالعيد يأتي اليوم بعد 12 شهراً من الكد في العمل والانشغال في شؤون الحياة، وتكون الإجازة السنوية فرصة لكثيرين باتوا يفضلون الاستراحة والابتعاد عن ضجيج المدن، لذا يختارون السفر. وخلال العقد الأخير، درج بالفعل قضاء العطلة من خلال السفر سواء إلى خارج إيران أو في داخلها. وهذا ما أثّر سلباً على اللقاءات العائلية". تضيف كيكاني أنّ "معنى العيدية اختلف كذلك. في السابق كانت العيدية رمزية، وقد صارت اليوم مادية. وهو أمر يمثّل ضغطاً على كثيرين، لذا قرّر البعض عدم تقديم عيدية من الأساس".
وتشير كيكاني إلى أنّ "الإيرانيين استطاعوا الحفاظ على طقوس كثيرة، لكنّ الروابط بين الأفراد لم تعد كما كانت في السابق وباتت أكثر فتوراً. أطفالي على سبيل المثال، لا يقضون العيد ذاته الذي كنت أقضيه مع أفراد عائلتي وأنا صغيرة، فالتكنولوجيا تطوّرت وبات كثيرون يدمنون الهواتف المحمولة ومواقع التواصل الاجتماعي".
تتبضّع للعيد (عطا كناري/ فرانس برس) |
في السياق، يؤكد الخبير في التاريخ الاجتماعي خسرو معتضد، لـ"العربي الجديد"، أنّ "الإيرانيين كانوا يتبادلون بطاقات بريدية في ما بينهم لإرسال التهاني بالعيد، وبعضهم كان يقدّم اعتذاره عبرها في حال أصابه مرض أو استجدت لديه حالة وفاة يمنعانه من الزيارة. أمّا اليوم، فيكتفي كثيرون بإرسال المعايدة عبر رسائل نصية، ويختصرون زياراتهم على أفراد العائلة الرئيسة". يضيف معتضد أنّ "كل ما يقوم به الإيرانيون في العيد على الرغم من اختلاف بعض الأمور، يرتبط بمعان قديمة. فتلك أيام للفرح والابتهاج، ولتبادل الأمنيات الطيبة".
ويؤكد معتضد أنّ "معنى بداية الحياة يتكرر في كلّ عام. ولطالما ارتبطت الطبيعة بما يفعله الإيرانيون خلال فترة عيد النوروز. حتى رغبتهم في السفر تتعلق بحبهم للطبيعة بشكل أو بآخر". ويتابع: "بما أنّ النوروز يتعلق ببداية الحياة، فإنّ زراعة الحبوب التي يكررها الإيرانيون حتى اليوم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالزراعة التي كانت جزءاً أساسياً من حياتهم في القدم. لذا كان انتظار الربيع مهماً للغاية. وهم اليوم يزرعون القمح والشعير قبل العيد ويضعونه إلى جانب سفرة السينات بعد أن ينمو، ثمّ يتركونه في الطبيعة في آخر يوم من العطلة والذي يوافق اليوم الثالث عشر من السنة الجديدة ويُطلق عليه اسم يوم الطبيعة".
ويوضح "في هذا اليوم، لا يجلس أيّ إيراني تحت أيّ سقف ولا في بيت، ويخرج الإيرانيون جميعهم إلى الحدائق والبساتين لتمضية يومهم بعضهم مع البعض، ويتركون مع غروب الشمس ما زرعوه في وعاء طيني في أحضان الطبيعة. أمّا في القدم، فكانت الأوعية ترمى في مجاري الأنهار وقنوات المياه ليركض من يرميها خلفها بهدف اكتشاف المناطق التي تنتهي فيها القنوات أو تسدّ بشكل عرضي ما يمنع عبور المياه. بالتالي يتوجّب عليه فتحها لضمان وصول المياه إلى كل بقعة من الأراضي الزراعية. أمّا في أيامنا هذه، فلا أحد يقوم بذلك، خصوصاً في المدن. هم ينهون بعد هذا اليوم الحافل في الهواء الطلق عطلتهم السنوية، قبل أن يعودوا إلى حياتهم الروتينية بعد ممارسة كل طقوس التجدد".