إوعى وشّك حرفياً (1/2)

08 مارس 2020
+ الخط -
لم تكن مديرة محل النظّارات هندية كما تصورت، وحين قالت إنها من ترينيداد وتوباغو، فهمت لماذا ظننت أنها هندية، ففي بلادها نسبة كبيرة من الهنود، كما عرفت من القراءة لمواطنها الروائي الحاصل على جائزة نوبل ف. س. نايبول. تحمّست السيدة حين قلت لها إنني قرأت بعض أعماله المترجمة إلى العربية، ولو أنها أضافت أنها غاضبة لأنه أصبح يعتبر نفسه بريطانياً أكثر منه ترينيدادياً، وبعد أن جاب الكلام بعضه قالت إنها لم تقرأ لنجيب محفوظ من قبل لكنها قرأت عنه، وإنها ستذهب إلى المكتبة العامة الموجودة في حيّنا النيويوركي لتستعير كتاباً له، لكي نصبح خالصين. 

كان حديثنا الأدبي قد تخلل اختياري لشنبر نظّارة جديدة، ومع أنّ السيدة بذلت مجهوداً في إقناعي بالتجديد، إلا أنني اخترت نسخة أخف وزناً من نظّارتي القديمة، شاكراً لها أنها استماتت في محاولة دفعي للتغيير، خاصة أنها عرضت عليّ شنابر أرخص، لكنها كانت أثقل وأكثر بهرجة، وقبل أن يتواصل حديثنا دخلت إلى المحل سيدة آسيوية لاستلام نظارتها، وبعد أن تبادلت السلام الحار مع مديرة المحل، لاحظت أنّ المديرة تضع قفازات في يديها، فأثنت على تلك الخطوة المهمة في ظل حالة الهلع التي تعيشها نيويورك مثل غيرها من مدن العالم بعد زحف فيروس كورونا المعدّل. 

قالت مديرة المحل إنها كانت تفكر أيضاً في ارتداء كمامة، لكنها سمعت أكثر من خبير في التلفزيون يشكك في جدواها، فضلاً عن أنها تشك في أن يثق المشتري في بائع لا يرى نصف وجهه، قالت السيدة الآسيوية التي اتضح أنها صينية، إنها أيضاً لا تعتقد في جدوى الكمامات، لكنها أصبحت تحرص على ارتدائها كلما دخلت إلى سوبر ماركت أو مكان مزدحم، لتتجنب النظرات القلقة والعدائية أحياناً التي يوجهها لها البعض، والتي تزعجها لكنها في الوقت نفسه تفهم أسبابها، ولذلك ترتدي الكمامة كبديل عن الاضطرار إلى ارتداء لافتة تقول فيها إنها لم تزر الصين منذ عشرة أعوام، ولم يزرها أحد من أقاربها أخيراً. 

حين قالت مديرة المحل إنها لمست خلال زيارتها الأخيرة إلى ترينيداد كيف يتعرض أبناء الجالية الصينية للمضايقة هناك أيضاً بسبب فيروس كورونا، قالت السيدة الصينية إنها فهمت الآن لماذا لم ترها في الأسبوع الماضي، حين جاءت إلى المحل لشراء نظارة جديدة، فقالت مديرة المحل إنها سافرت إلى بلادها لحضور مناسبة عائلية، مع أنها كانت متشائمة من السفر في ظروف كهذه يمكن أن يلتقط الإنسان فيها العدوى بسهولة من المطارات التي أصبحت فجأة أماكن سيئة السمعة، وأنها لا تزال مرعوبة لأنها سمعت من صديقة أنّ الحالة الأولى التي ظهرت في نيويورك لمصابة بفيروس كورونا كانت قادمة من إيران في نفس يوم قدومها من ترينيداد.

لمست مديرة المحل على وجهي ما تصورت أنه إحساس بالفزع، وقد كانت مخطئة، فقد كان إحساساً بالقلق فقط، فابتسمت ورفعت يديها لتذكرني بالقفازين، فضحكت قائلاً إنني لست قلقاً من شيء، فقالت بجدية: "لا يا عزيزي، يجب عليك أن تقلق"، وحين رأيت أنّ تلك العبارة خاتمة مثالية للحديث يتوجب بعدها الاستئذان ومغادرة المكان، حرصت السيدة اللطيفة على تذكيري بألا ألمس وجهي أبداً قبل عودتي إلى البيت لأغسل يدي جيداً بالصابون، وحين قلت إنني أحمل معي مناديل مطهرة، قللت من أهميتها مقارنة بالصابون، وقالت لنا إنها ستكون مدينة للهلع المحيط بالفيروس الجديد، لو خلصها من عادة فرك عينيها التي لا تليق بسيدة تعمل في محل نظّارات، ثم أضافت أنها طلبت من ابنتها أن تكتب لها على الكمبيوتر لافتة لكي تعلقها خلفها في المحل، تذكر فيها جميع من يدخلون بأهمية أن يغسلوا أيديهم ويتوقفوا عن لمس وجوههم. 

كنت قبل لقائي بمواطنة نايبول قد شاهدت فيديو انتشر بكثافة على "فيسبوك"، تظهر فيه مسؤولة صحية في ولاية كاليفورنيا التي انتشر فيها الفيروس بشكل أكثر حدة من نيويورك، وهي تحذر الناس في خطاب رسمي من لمس أنوفهم أو أفواههم أو أعينهم قبل غسل أيديهم بقوة، لكنها في حركة تلقائية مدت اصبعها إلى فمها لتبلله وتستعين به على تقليب صفحات الخطاب، لتتحول نصيحتها المهمة إلى هدف للسخرية يفرغ فيه الناس قلقهم من هذا الزائر الكريه الذي لا يعرف أحد من أين جاءنا بالضبط، ولا متى سيحل عن سمانا، وبأي قدر من الخسائر.

كان لا بد من قضاء عدة مشاوير قبل عودتي إلى البيت، ولا أذكر أنني شعرت بالرغبة في لمس وجهي وهرشه بل وخربشته مثلما شعرت بها في ذلك الوقت، ربما لأنّ السيدة الترينيدادية حذرتني من ذلك وذكرتني بخطورته، حتى أنني فكرت في الدخول إلى أقرب مقهى يصادفني لغسل يدي بالصابون، ثم الشروع في هرش وجهي لأستطيع مواصلة السير في سلام. وهرباً من سيطرة هواجسي، خطر على بالي تلك اللزمة التي كنا نحبها صغاراً لعادل إمام حين يقوم بهرش أرنبة أنفه قبل أن يتحدث، وكيف كنا نقلدها هي وطريقته في إشعال السيجارة وهز كتفيه وهو يقول: "عايز أنام أنا يا أخي"، ومن تلك الذكرى العابرة انتقل دماغي المرتبك إلى استحضار ملامح المفكر السلوفيني الشهير سلافوي جيجيك، وحركاته العصبية التي تجعله يلمس مناخيره طول الوقت حين يتحدث.

كنت قد توقفت منذ فترة عن مشاهدة فيديوهات سلافوي جيجيك وحواراته، ليس لأنه يهرش مناخيره، بل لأن لكنته الثقيلة تمنعني من فهم أغلب ما يقوله، ولذلك اكتفيت بالقراءة له، كنت قد قرأت له، قبل يومين، مقتطفاً من مقال نشره في صحيفة روسية وترجمه محمد سامي الكيال، وكان المقتطف يتحدث عن الفرصة التي يشكلها فيروس كورونا لمقاومة سيطرة الرأسمالية وتغيير التفكير العالمي في كثير من القضايا الهامة. لم أقرأ المقال كاملاً، لكنني قمت بحفظه على أمل الرجوع إليه، وها أنا الآن لا أفكر في المقال، بل أفكر في الطريقة التي يمكن فيها إقناع سلافوي جيجيك بالتوقف عن هرش أنفه حفاظاً على حياته، متسائلاً عما إذا كان قد قرأ خبر إصابة الروائي التشيلي لويس سيبولفيدا صاحب الرواية الجميلة "العجوز الذي كان يقرأ الروايات الغرامية" بفيروس كورونا هو وزوجته، ومن يدري لعل جيجيك قرر بعدها أن يراجع نفسه في موضوع هرش مناخيره طول الوقت، مثلما قررت السيدة التريندادية إجبار نفسها على التوقف عن فرك عينيها.

وبالطبع زاد التفكير في سلافوي جيجيك من رغبتي في هرش مناخيري وفرك عينيّ، وحين لم أجد مقهى قريباً فكرت في إلغاء مشاويري والعودة إلى البيت لأخذ الاحتياطات اللازمة قبل أن أنهال في وجهي هرشاً، لكنني قلت لنفسي إنّ علي أن أقتدي بالتجربة الترينيدادية وأجبر نفسي على قضاء مشاويري، دون أن تمتد يدي إلى وجهي تحت أي ظرف، ولم يكن نجاحي في ذلك سهلاً، لكنني نجحت، ربما لأنني قضيت وقتاً طويلاً في تأمل تعامل المارة مع وجوههم، لكن حالتي لم تتطور إلى حد الذهاب إلى تلك السيدة المسنة لأحذرها من فرك عينها، أو نصح تلك الأم المرهقة بأن تحاول إقناع طفلها بالتوقف عن نزح إفرازات مناخيره ونقل بعض مقتطفات منها إلى فمه، مكتفياً بتمني السلامة لهم ولي ولأحبابي، ولجميع سكان هذا الكوكب المذعور، في هذه الأيام التي تجد نفسك فيها مضطراً بجدية إلى تمني السلامة للخاطفين والمخطوفين.  

وسط طوفان الأخبار الكارثية والتقارير الإرشادية الذي انهمر من كل الصفحات والمواقع التي دخلت عليها بعد عودتي إلى البيت وزوال رغبتي في الهرش فور أن غسلت يدي، وجدت أمامي موضوعاً على قائمة أهم ترشيحات القراءة، نشرته صحيفة "لوس أنجليس تايمز" تحت عنوان: "أخطر ما في فيروس كورونا أن تلمس وجهك"، مصحوباً بعنوان فرعي يبشر القارئ أنه حين يقرأ الموضوع سيتعلم كيفية التخلص من عادة لمس وجهه، وعلى الفور تذكرت السيدة الترينيدادية لأنّ الصحيفة اختارت أن تنشر مع الموضوع صورة لسيناتور أميركي وهو يقوم بدعك عينيه بقوة خلال إحدى جلسات الكونغرس، مع أنّ تاريخ الصورة يعود إلى 2015، لكن محرر الصحيفة اعتبر أنّ الصورة ستنجح في تجسيد خطر لمس الوجه الذي يفترض أن يساعدنا الكاتب رونغ غونغ لين، في التغلّب عليه. 

...

نكمل غداً بإذن الله.    

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.