إنه يلعب

26 يوليو 2015

فتاتان ألمانيتان تلعبان في حديقة (أ.ف.ب)

+ الخط -
ميزة المفكرين العظام تقعيدهم مقولات مفرطة في بساطتها، ومفرطة في صحتها، في الوقت نفسه. مثل قول فرويد إن كل ما يأتيه الإنسان في حياته من أفعال هو تطوير على حاجته الأساسية للعب. يلعب بنفسه وبأعضائه الجنسية طفلا، ويلعب بعدها بما حوله، يلعب بفمه، بعينيه، بيديه، وحين يكبر قليلا يلعب بالجنس، ويظل يلعب وهو يكتب ويعمل ويحارب، كل هذه تنويعات على اللعب. 
التشكيك الأساسي ظاهريا بمقولة فرويد يأتي من مفارقة المتعة والفرح والانشراح الذي يتصف به لعب الأطفال، للعب الكبار. تغيب كل حالة الوجد تلك عن ألعاب الكبار أو تغيّب. ويحدث أن يذهل المرء، حين يكتشف ذلك الوجد متسللاً إلى نفسه، وهو يؤدي نشاطا ما، فيكتشف أنه وجد ضالته وغايته. حين يقول أحدهم وجدت نفسي في الكتابة أو في المعركة أو العمل، فهو بدأ يكتشف أنه يلعب فعليا، وبكثير من المتعة والسرور، وإن لم يبد ذلك على ملامحه.
والحال أن أدوات اللعب مهمة، بل إن مرحلة لعب الطفل بنفسه تبدو مثالية وغير قابلة للاسترجاع، حين تقتصر دائرة الفاعل والفعل والمفعول به والانفعال في الشخص نفسه، يقتصر أثرها على كيان الطفل وجسده. أما المراحل اللاحقة فتحمل توسيعا مريعا لهذه الدائرة، بدءاً بإمساك الموضوعات والأشياء، واكتشاف أنها قابلة لأن تكون ملعوبا بها، وأن طاقة اللعب توجهت بفعل فاعل، أو يمكن توجيهها نحو الخارج.
كل حرمان أو تقويض للعب المراحل الأولى، وتحديداً لعب الإنسان بنفسه وبجسده، يسهم في نمو غير طبيعي لرغبة اللعب، توجيه الرغبة المبكرة نحو الأشياء والآخرين يعني توجّه الرغبة نحوهم بطريقة مختلفة، وحاجة مستمرة للتعويض بطرق متعددة. وهؤلاء المحرومون في طفولتهم من تطور طبيعي لرغبة لعبهم، مؤهلون لابتكار أشكال لعب تعويضية لاحقة، غير متوقعة ولا مسبوقة. هل يمكن القول، هنا، إن كل أولئك المشغولين بالآخرين كيف يلبسون وكيف يتحركون وماذا يقولون، والساعين بكل قوة للفعل بالآخرين وأجسادهم وحيواتهم، تكميما ومراقبة وحصرا وتقنينا وتقتيلا، هم، في الحقيقة، يحاولون تعويض حرمانهم القديم من اللعب البريء بأنفسهم؟ ربما!
تتسع حلقة اللعب (الفاعل والفعل والمفعول به والانفعال) ضمن حدود وإمكانيات الشروط التي يجد الفرد فيها نفسه، المال يجعل الدائرة أوسع وما فيها أكثر، كونه بوابة التملك. أما السلطة وما حولها من قوة، فإنها أهم مؤهلات توسيع الحلقة، السلطة تعني أن تدخل بشراً في مساحة اللعب، أو أن تلعب بهم ببساطة، وامتد هذا اللعب مرمزاً ومكثفاً منذ حلبات مصارعة الأسود وتقاتل العبيد والأسرى في العصور السحيقة، وحتى المصارعة أو الملاكمة الحديثة الراهنة، ولعل السينما أبدعت، أيما إبداع، في تكثيف حالة اللعب القهري تلك، وترميزها بسلاسل من أفلام تحكي كيف تحكم جماعة صغيرة مجموع البشر، وحتى تجهز على أوقات مللها، وتنشغل بشيء ممتع فريد، تبدأ باختراع ألعاب عجيبة، قوامها الاقتتال بين الضعفاء، بدفع من الغرائز الأساسية، في حين تنشغل الفئة المسيطرة بالمتابعة والفرجة والمتعة.
المهم، هنا، أن من يمتلك السلطة والقوة يمتلك خيارات لعب هائلة، وللاحتفاء باللعب قد يصور ويعرض على شاشات التلفزة وفي وسائل الإعلام، فجزء من اللعب رؤية ردات فعل الجمهور حال مشاهدته، إلا أن التقاط المتعة على وجه ذاك اللاعب حين يتحكم بمصائر الناس، يقتلهم يعذبهم ويقهرهم، نادر بل يكاد يكون حصراً بصورة الشرير المقهقه في نهايات المشاهد السينمائية والكارتونية. وحين نعثر على مشهد له، صورة أو تعبير لا تحتمل أي تفسير سوى كونه مستمتعا بلعبه، فمن المفيد تمعنها لأنها تقول الكثير.
دلالات
2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين