15 نوفمبر 2024
إنهم أناسٌ يتطهرون
هناك قاموس يدعو بعضه بعضاً، فحينما يهيمن الاستبداد، فإنه ينادي على الفساد والظلم من قريبٍ ومن بعيد، فيكون الفساد في حضانته، والقمع والترويع في معيته، والظلم والجور من شيمته، وكل هؤلاء يأمنون في بيئة تحصينه وحصانته. يقول الكواكبي عن ذراري الاستبداد، وعائلته الجامعة كل الصفات الخسيسة والقبيحة "الاستبداد شرٌّ، أبوه الظلم، وأمه الإساءة، وأخوه الغدر، وأخته المسكنة، وعمه الضُر، وخاله الأذى، وابنه الفقر، وبنته وعشيرته الجهالة، ووطنه الخراب". تأملت هذه الكلمات ملياً، وأنا استعرض مسيرة هذا الاستبداد، بعائلته المدمرة للإنسان والعمران. الاستبداد أعظم بلاء؛ لأنَّه وباء دائم بالفتن، وجَدْبٌ مستمرٌّ بتعطيل الأعمال، وحريقٌ متواصلٌ بالسَّلب والغصْب، وسيْلٌ جارفٌ للعمران، وخوفٌ يقطع القلوب، وظلامٌ يعمي الأبصار، وألمٌ لا يفتر، وصائلٌ لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي كما يقول الكواكبي.
مرة ثانيةً، نفتح ملف الفساد بمناسبة قرار جمهوري، منتصف الليل، أشبه بزوار الفجر من زبانية الأمن الكاذب. قرارات تدق مسامع الناس قبل النوم، وكأنها تريد أن تمرّر بليل، لأن إقالة من يحاسب إما أن يكون لفساده، وإما أن يكون لصلاحه ممن لهم مصلحة في ذلك الفساد، حينما يتحكّمون ويتصدّرون، وحينما هدفهم وشعارهم "إنهم أناس يتطهرون"، فإن رأوا صالحاً أو اكتشفوه، أغروا به وترصّدوا، وشوّهوه وتربصوا.
أصدر المنقلب، في منتصف الليل، قراراً جمهورياً بإعفاء هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي، أكبر جهاز رقابي في مصر، من منصبه، بحسب وكالة الأنباء الرسمية، وكالة أنباء الشرق الأوسط، ولم تعط الوكالة تفاصيل أو إشارة إلى أسباب الإقالة، إلا أنها نشرت، قبل القرار، بياناً لـ "نيابة أمن الدولة العليا"، جاء فيه إن التصريح الصحافي الذي أدلى به جنينة قبل أشهر، وزعم فيه اكتشافه وقائع فساد تجاوزت قيمتها 600 مليار جنيه، أي حوالي 75 مليار دولار خلال عام 2015 يتسم بعدم الدقة، وأن الأرقام والبيانات التي قدمتها اللجنة المشكلة من الجهاز حول قيمة الفساد غير منضبطة، وتتضمن وقائع سابقة على عام 2012 وتكراراً في قيمة الضرر". وكشف مصدر قضائي أن نيابة أمن الدولة العليا، برئاسة المحامي العام الأول، المستشار تامر الفرجاني، تقرّر منع جنينة من السفر، وذلك على خلفية البلاغات التي تحقّق فيها النيابة العامة. ومن عجيب الأمر، وصفت نيابة أمن الدولة العليا، برئاسة المستشار تامر الفرجاني، تصريحات المستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، بشأن تكلفة الفساد، بـ"غير الدقيقة"، مشيرة إلى أنه غير مختص بتحديد حجم الفساد، فإذا لم يكن رئيس أكبر جهاز رقابي لا يحق له أن يحدّد حجم الفساد فمن حق من إذا؟ بيان مخابراتي بامتياز.
المفارقة في واقعة عزل جنينة، أن الرقابة الإدارية التي شاركت المركزي للمحاسبات، في
تقرير فساد الأراضي الصحراوية، هي التي شاركت في قيادة لجنة تقصّي الحقائق التي ذهبت إلى اتهام جنينه بالمبالغة، وأن الفساد لا يصل إلى عشرة في المائة مما قاله، وهو ما يلقي تساؤلاتٍ محرجةٍ للغاية، عن مبرّرات اتهام جنينه، على الرغم من أن الرقابة الإدارية شاركته في التقرير الأول، وهو مطابق للثاني. أكثر من هذا أنه لا يوجد، في قانون الجهاز المركزي للمحاسبات، ما يحظر على رئيس الجهاز الحديث للصحافة أو الإعلان عن مضمون تقارير الجهاز أو نتائجها، بينما ينص الدستور، في المقابل، على ضرورة نشر تقارير الأجهزة الرقابية وإعلانها للرأي العام". غير أن الرئيس عبد الفتاح السيسي، في المقابل، كان قد أصدر في يوليو/تموز الماضي قراراً بقانون يمنح رئيس الجمهورية حق "إعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم"، بمن فيهم رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، في خطوةٍ فسّرها مراقبون تمهيداً لإطاحة هشام جنينة.
في مقدماتٍ عجيبةٍ ومريبةٍ، وبعد حملات إعلاميةٍ وتشويه متعمد لجنينة، كان القرار الذي أصدره المنقلب بإقالته الذي أكد بعضهم أن قرار الإعفاء باطل وغير قانوني. لفّق المنقلب لجنينة اتهاماتٍ باستغلال منصبه في اختلاس مستندات جهة عمله، ووثائق وتقارير الجهاز، ونشر أكاذيب عن حجم تكلفة الفساد، بهدف الإضرار بمركز مصر السياسي والاقتصادي، قرار فاقد الأمانة، يعتدي على الحصانة، قرار لا يحتمل شفافيةً أو نزاهةً، فهذا موقف البرلمان، بصدد رفضه أن يشكل هيئةً لمكافحة الفساد، فماذا يريد؟ البرلمان من الواجب أن يقوم بأصل وظيفته في الرقابة والمحاسبة، فإذا به يجعل من وظيفته آلة تعبئة وتأييد، ورضي أن يكون ضمن أدوات حملة التشويه، والنيْل من رئيس مؤسسةٍ رقابيةٍ، ويحرّض عليه.
الفساد توأم الاستبداد، وله أشكال كثيرة، وهو عين الظلم والجور المؤدي إلى خراب العمران وتقويض مادته، هادم للكيان والبنيان، أهل الفساد يدافعون عن الاستبداد، وأهل الاستبداد وسدنته يدافعون عن الفساد، في دورةٍ مريبةٍ وحلقةٍ خبيثةٍ تأكل التنمية والإنسان، كما تبدّد قدرة الأوطان ومكانتها. قرارات الفساد والإفساد خيار استراتيجي لدى أهل الاستبداد والانقلاب، فكيف يمكن أن نطلب من أهل الفساد أن يصلحوا "الذين إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض، قالوا إنما نحن مصلحون". ها هو مشهد الفساد تكتمل أركانه بعملية تطهيرٍ معكوس، تطهير من دعاة الإصلاح وأدواته أو المنادين به أو المحاربين للفساد، وترسيخ كيان الفاسدين من المنتفعين منه، والمستفيدين من ثماره المسمومة وأصحاب المصالح.
الفساد منظومة متكاملة تمكّن لدورته الخبيثة، والمنقلب سياسة واستراتيجية ليس إلا جزءاً من منظومة الفساد والإفساد، ليضم المنقلب إلى أوصافه الخبيثة والخائبة من فاجر غادر، وعاجز فاشل، ومستبد فاشي، فيكمل مربع أوصافه بالفاسد المفسد، منظومة بعضها من بعض، يشكل الظلم والاستبداد رأس كل فساد.
مرة ثانيةً، نفتح ملف الفساد بمناسبة قرار جمهوري، منتصف الليل، أشبه بزوار الفجر من زبانية الأمن الكاذب. قرارات تدق مسامع الناس قبل النوم، وكأنها تريد أن تمرّر بليل، لأن إقالة من يحاسب إما أن يكون لفساده، وإما أن يكون لصلاحه ممن لهم مصلحة في ذلك الفساد، حينما يتحكّمون ويتصدّرون، وحينما هدفهم وشعارهم "إنهم أناس يتطهرون"، فإن رأوا صالحاً أو اكتشفوه، أغروا به وترصّدوا، وشوّهوه وتربصوا.
أصدر المنقلب، في منتصف الليل، قراراً جمهورياً بإعفاء هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي، أكبر جهاز رقابي في مصر، من منصبه، بحسب وكالة الأنباء الرسمية، وكالة أنباء الشرق الأوسط، ولم تعط الوكالة تفاصيل أو إشارة إلى أسباب الإقالة، إلا أنها نشرت، قبل القرار، بياناً لـ "نيابة أمن الدولة العليا"، جاء فيه إن التصريح الصحافي الذي أدلى به جنينة قبل أشهر، وزعم فيه اكتشافه وقائع فساد تجاوزت قيمتها 600 مليار جنيه، أي حوالي 75 مليار دولار خلال عام 2015 يتسم بعدم الدقة، وأن الأرقام والبيانات التي قدمتها اللجنة المشكلة من الجهاز حول قيمة الفساد غير منضبطة، وتتضمن وقائع سابقة على عام 2012 وتكراراً في قيمة الضرر". وكشف مصدر قضائي أن نيابة أمن الدولة العليا، برئاسة المحامي العام الأول، المستشار تامر الفرجاني، تقرّر منع جنينة من السفر، وذلك على خلفية البلاغات التي تحقّق فيها النيابة العامة. ومن عجيب الأمر، وصفت نيابة أمن الدولة العليا، برئاسة المستشار تامر الفرجاني، تصريحات المستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، بشأن تكلفة الفساد، بـ"غير الدقيقة"، مشيرة إلى أنه غير مختص بتحديد حجم الفساد، فإذا لم يكن رئيس أكبر جهاز رقابي لا يحق له أن يحدّد حجم الفساد فمن حق من إذا؟ بيان مخابراتي بامتياز.
المفارقة في واقعة عزل جنينة، أن الرقابة الإدارية التي شاركت المركزي للمحاسبات، في
في مقدماتٍ عجيبةٍ ومريبةٍ، وبعد حملات إعلاميةٍ وتشويه متعمد لجنينة، كان القرار الذي أصدره المنقلب بإقالته الذي أكد بعضهم أن قرار الإعفاء باطل وغير قانوني. لفّق المنقلب لجنينة اتهاماتٍ باستغلال منصبه في اختلاس مستندات جهة عمله، ووثائق وتقارير الجهاز، ونشر أكاذيب عن حجم تكلفة الفساد، بهدف الإضرار بمركز مصر السياسي والاقتصادي، قرار فاقد الأمانة، يعتدي على الحصانة، قرار لا يحتمل شفافيةً أو نزاهةً، فهذا موقف البرلمان، بصدد رفضه أن يشكل هيئةً لمكافحة الفساد، فماذا يريد؟ البرلمان من الواجب أن يقوم بأصل وظيفته في الرقابة والمحاسبة، فإذا به يجعل من وظيفته آلة تعبئة وتأييد، ورضي أن يكون ضمن أدوات حملة التشويه، والنيْل من رئيس مؤسسةٍ رقابيةٍ، ويحرّض عليه.
الفساد توأم الاستبداد، وله أشكال كثيرة، وهو عين الظلم والجور المؤدي إلى خراب العمران وتقويض مادته، هادم للكيان والبنيان، أهل الفساد يدافعون عن الاستبداد، وأهل الاستبداد وسدنته يدافعون عن الفساد، في دورةٍ مريبةٍ وحلقةٍ خبيثةٍ تأكل التنمية والإنسان، كما تبدّد قدرة الأوطان ومكانتها. قرارات الفساد والإفساد خيار استراتيجي لدى أهل الاستبداد والانقلاب، فكيف يمكن أن نطلب من أهل الفساد أن يصلحوا "الذين إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض، قالوا إنما نحن مصلحون". ها هو مشهد الفساد تكتمل أركانه بعملية تطهيرٍ معكوس، تطهير من دعاة الإصلاح وأدواته أو المنادين به أو المحاربين للفساد، وترسيخ كيان الفاسدين من المنتفعين منه، والمستفيدين من ثماره المسمومة وأصحاب المصالح.
الفساد منظومة متكاملة تمكّن لدورته الخبيثة، والمنقلب سياسة واستراتيجية ليس إلا جزءاً من منظومة الفساد والإفساد، ليضم المنقلب إلى أوصافه الخبيثة والخائبة من فاجر غادر، وعاجز فاشل، ومستبد فاشي، فيكمل مربع أوصافه بالفاسد المفسد، منظومة بعضها من بعض، يشكل الظلم والاستبداد رأس كل فساد.