إنكار يستوجب إنكاراً

16 ديسمبر 2015
+ الخط -
يحتم انسداد أفق التسوية في فلسطين الأخذ بلغة وموقف آخرَيْن في السياسة، فقد تأكد أن التسوية مستحيلة، وأن المحتلين ينكرون على الشعب الفلسطيني حقه في الحد الأدنى من وطنه ومن حريته. أصبح المقتضى العقلاني هو العودة إلى إنكار حق الصهيونية في أي جزء من البلاد. فعلى الرغم من رسوخ هذا الإنكار في الوجدان الشعبي الفلسطيني؛ إلا أننا، في السياسة، اعترفنا، ضمناً، بهذا "الحق" الباطل، لمجرد التسليم بالأمر الواقع ونشدان التسوية، كمن يتبع منطق ما قالته العرب قديماً "لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم". ففي قول العرب، ذاك، إدراك لطبائع الذئب، إذ هو، في غياب الراعي، يفعل فعلين فاحشين. الأول، أنه ينقضّ على شاةٍ متطرفة عن القطيع، فيبقر بطنها بشراسة وشراهة، فيشبع، أولاً، من نحو ثلثيها، لكنه، بعدئذٍ، يتولى بقر بطون سائر غنمات القطيع، الواحدة تلو الأخرى، ليمارس ترف إشباعه النفسي، وعندما يشعر بالرغبة في الاستزادة من اللحم الضأن، يستهويه الجزء الثالث من الشاة الأولى.
مفتتح التغيير في اللغة والموقف يقتضي الإجابة على سؤال أساسي: من هم الذين خاب سعيهم، على مر مراحل القضية الفلسطينية، المتشددون حيال الحقوق القصوى للفلسطينيين في وطنهم، أم من سمّوا أنفسهم، أو سماهم مؤيدوهم، واقعيين ومعتدلين؟
قبل الإجابة، ينبغي التنويه إلى أن فكرة التسوية قامت، أصلاً، على فرضية أن المتشددين وطنياً لاواقعيون، وفي السفاهة اعتبرهم بعضهم عدميين أو مزاودين، أو مترفين إيديولوجياً، ولا علاقة لهم بالواقع. لكننا عندما نتأمل النتائج، ونعاين المآلات، نكتشف أن الأولين الذين سموا أنفسهم واقعيين هم الذين قطعوا الشوط كله، سعياً إلى تسوية يتقبلها الشعب الفلسطيني على مضض، توخياً لئلا يفنى الغنم. وقال المرحوم خالد الحسن، في مرحلة التفاؤل، ما يُعد توصيفاً للموقف بغير لغة البدوي عن القطيع: "من يتنازل عن نصف وطنه، لا يستحق النصف الآخر"، ذلك علماً أن المطروح كأقصى المنال لم يكن نصف الوطن، وإنما خُمسُه مع زيادة طفيفة.
الإجابة على السؤال، إن خيبة الآمال، وقبض الريح، ومأزق التورط مع الوعي الجمعي للفلسطينيين، ومع حقائق التاريخ، بالخسارة الفادحة وبلا أي ربح، هي خيبة الواقعيين والمعتدلين، والمتشاطرين، والراسخين في الكواليس. فهؤلاء هم الذين كانوا، وما زالوا، ذوي أحلام حلَّقت في فضاءات وهمية، زادتها سعادةً بالنسبة لهم، أنماط حياة آمنة رغدة، مستثناة من مخاطر التصفية، ومن حاول منهم الخروج من هذه الفضاءات، أو لم يلتحق بها أصلاً، أدركه الموت الزُؤام، أو أعيته برودة المهجر ورياحه ومكابداته، ومات حزيناً. فهكذا "الفانتازيا" في السياسة، كما في الأدب، خيال افتراضي، يخلو من الموت ويخلو من الواقع.
ما يحسم الأمر، بالمعيار التاريخي، لصالح المتشددين حيال وطننا المستلب، ويجعلهم أكثر واقعية، بكثير، من "الواقعيين"؛ أنهم لم يمتلكوا في أية مرحلة، القرار الفلسطيني. تشدد الحاج أمين الحسيني، لكن القرار انتُزع منه، منذ عام 1937 عندما طاردته السلطات البريطانية وغادر البلاد. أخذ البريطانيون علماً بما قاله لشخصيات فلسطينية إن الأولوية لمقاومة الإنجليز: "ما رأيكم أن تقاوموا أنتم الإنجليز، وتتركوني لمقاومة اليهود". ورأى الإنجليز المتواطئون مع الصهيونية أن الرجل يعرف جوهر الخطر، فطاردوه، وأفلت منهم.
أما أحمد الشقيري، فقد طرح خطاب الحقوق القصوى، لكنه لم يكن يملك قرار التحشيد، ولا قرار القتال، وكانت ألوية جيشه خاضعة لرئاسات الأركان العربية. بعد هزيمة 1967 وظهور الفصائل، لم يستوعب النظام العربي، سوى الخط "المعتدل"، وأهمل الخط المتشدد. لذا، لم يمتلك المتشددون قراراً، ولم يديروا الصراع، وتولى الأمر "معتدلون" خاب مسعاهم.
لا بد من مبادلة العدو إنكاراً بإنكار. يرتكز إنكارنا على الحق الذي يتطلب استجماع إرادة، بينما يقوم إنكارهم على باطل، ليس أيسر من إزهاقه في عملية تاريخية كفاحية، تكمن مقوماتها في الأمة وفي أوطانها.
دلالات