إلى حيث يذهب الخيال

21 يناير 2016
إنّهُ "أثر الفراشة " كما تعلمون (Getty)
+ الخط -


أُتّهمُ بالجنونِ دائماً لأنني أتحدَّثُ عن ربطةِ العُنقِ التي لا أرتديها، لكنَّها كانت سرَّ سعادةِ حبيبتي، حين دخلتُ ذات مرةٍ أحمل لها باقةً من الورود، وعُلبة شوكولا فاخرة. في سهرةٍ رومنسية ونبيذٍ أبيض كما تحبّ، كانت بكل جمالها، حفيدة الخيال، اعتدتُ رؤيتها مع ارتجاف صوت جدتي وأمي، اعتدت شرب النبيذ معها بكل فروسيَّتي المتخيَّلة، ونبلي المرسوم بالظلال، بمساعدة ضوء يراعتين داخل القنديل في سهرات الشتاء. كنت مثلها بكامل أناقة الفرسان من عصر النبلاء، وربطة عنق تشدني للواقع، وتخنقني.

حَدْسي الصغير صار شيطاناً ناريَّاً، يحملُ قلعةً ويُهرول فيها في حقولٍ من صُنع "مايازاكي"، كان اسمه "كالسفر". ابتلعتُهُ حين كان نجمةً هوت من السماء مع آلافِ النجمات. في بركة الأمنيات، كنتُ في داخلها مرتدياً وجهي السحري المُسمَّى "هاول"، تلقَّفتُه، ابتلعتُه، سيطرَ عليَّ لفترةٍ، عرفتُ خلالها أن "صوفي" لن تأتي بسرعةٍ، ستتركُني وحيداً مع حدسي الذي لا يخيب، حَدْسي الذي يَحملُ قلعتي السحرية، ويُهرول في مجرةٍ لا تشبه مساحات "مايازاكي".

"صوفي" التي ما زلت أنتظرها، كانت تجلس في الجامعة، وتَعقِدُ الشال وتعيد فك عقدتها، بشعرها المسترسل كشلالٍ من عُتمة، وعيونٍ تنظرُ للمساحاتِ التي تحيط بالمبنى المسمى "كافيتريا". أخبرتُ الريح أنَّها رأت قلعة متحركة وشاباً يطير، بسخريةٍ وقحة سألتها الريح: "وهل رأيتهِ هُناك؟".

كانت ترى قافلة من اليراعات، متكومة في السقف صانعةً مصباحاً كهربائياً، يعملُ بقوةِ الطبيعة. أجابت: "بل هناك حيث يذهب الخيال، رأيتهُ بحدسي القابع فوق كتفي، حدسي الذي لا يخيب، كان قطةً صغيرة، أطعمتُها القلب وبعضاً من الريح. في تلك اللحظة، كنتُ محارباً بسيفٍ مُتْعب، أسترقُ الفيءَ من شجرةِ كرزٍ في غابات "طوكيو"، حينما رأيتُ النسيم لأول مرة كما يعرفه حدسي تماماً".

ﺃﺭﺍﻧﻲ ﺩﺍﺋﻤﺎً، ﻣﻤﺘﻄﻴﺎً ﻇﻬﺮ ﺍﻟﻼﻣﺎ ﺑﻜﻞ ﻋﺘﺎﺩﻱ ﺍﻟﻤﺪﺟﺞ ﺑﺎﻷﻟﻮﺍﻥ، ﺧﻠﻔﻲ ﺳﺮﺏ ﻣﻦ ﻃﻴﻮﺭ ﺍﻟﻠﻘﻠﻖ ﺗﺤﻤﻞ آﻻﻑ ﺍﻟﺴﻨﺎﺟﺐ المقاتلة، ﻭﻋﻠﻰ ﻳﻤﻴﻨﻲ ﻗﻄﻴﻊ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻮﺍﻻ، ﻻ ﺗﻨﺼﺎﻉ ﻟﻠﺮﻳﺢ ﻭﻻ ﺗﺨﺎﻑ ﺍﻟﺒﺎﻧﺪﺍ ﺍﻟﺬﻱ ﺍﺳﺘﺸﻴﺮﻩ ﻓﻲ ﺃﺻﻌﺐ ﺍﻷﻣﻮﺭ. ﺍﻟﺒﺎﻧﺪﺍ "ﺍﻟلعين" ﻳﺠﻴﺪ ﺍﻟﻠﻌﺐ ﺑﺎﻟﻜﻤﺒﻴﻮﺗﺮ ﻭﺍﻟﻜﺎﻭﻧﺘﺮ ﺳﺘﺮﺍﻳﻚ، ﻟﺬﻟﻚ، ﻳﻔﻬﻢ ﺗﻤﺎﻣﺎً ﺃﻥ ﺭحلاﺗﻲ ﺍﻟﻤﺘﻜﺮﺭﺓ ﻟﻐﺰﻭ ﺍﻟﻔﻀﺎﺀ ﻭﺣﺮﻕ ﺍﻷﻓﻖ ﻭﺍﺑﺘﻼﻉ ﺍﻟﻘﻤﺮ ﺍﻟﻤﺸﻤﺸﻲ ﻟﻴﺴﺖ ﺑﺴﻬﻠﺔ.

ﻋﻠﻰ ﻳﺴﺎﺭﻱ 25 ﺭﺍﻛﻮنا ﻳﺠﻴﺪﻭﻥ ﺍﻟﺘﻠﺼﺺ ﻭﺳﺮﻗﺔ ﺍﻟﻨﺠﻮﻡ، ﻭﻫﻢ أﻳﻀﺎً ﻻ ﻳﺨﺎﻓﻮﻥ ﺍﻟﺒﺎﻧﺪﺍ ﻭﻻ ﺍﻟﻜﻮﺍﻻ، ﺃﺭﺍﻫﻢ ﺩﺍﺋﻤﺎً، ﻭﺃﺭﺍﻧﻲ ﻧﺴﻴﺮ ﻓﻮﻕ ﺧﻂ ﺍﻻﺳﺘﻮﺍﺀ، ﻭﺑﻤﺤﺎﺫﺍﺓ ﻏﺮﻳﻨﺘﺶ فلا نأبه للوقت. ﻧﻌﺒﺮ ﺍﻟﻤﻀائق ﺑﺨﻔﺔ، ﻧﺄﻛﻞ ﺍﻷﺷﺠﺎﺭ ﺑﺘﺄﻥٍ، ﻧﺸﺮﺏ ﺍﻷﻧﻬﺎﺭ ونخب ﺍﻟﺮﺣﻼﺕ، ﺛﻢ ﻋﻠﻰ ﺣﺎﻓﺔ ﺍﻷﺭﺽ ﻧﺠﻠﺲ ﻧﺘﺤﺎﻭﺭ ﻛﻴﻒ ﺃﻏﻔﻠﻨﺎ ﻛﻤﺎ ﻧﻐﻔﻞ ﺩﺍﺋﻤﺎً، إﺣﻀﺎﺭ ﺷﺮﻧﻘﺔ ﻻﺣﺘﻮﺍﺀ ﺣﺮﻳﺮ ﺍﻷﻓﻖ. لهذهِ التفاصيل، عمرٌ من زغبِ الأحلام وطفولةٍ هَشّة. لكنّني اليوم، أنظرُ إليها بعينيّ سنجابٍ خائفٍ يختبئُ من حتفٍ لا يشتهيه، وفقدٍ للأحبةِ صار سمةَ عصرٍ قذر.

رُغم ذلكَ، ما زلتُ أتمسكُ بحدسي الصغير كمن يُوصي ولدهُ بالعودةِ للبيت بنجاح، لم يرتب أساس حياتي يوماً، لم تسنح له فرصة لخلع سور ما، سور في القلب، إنه الحدس فقط، علبة أفكار لا تنضب. علبة تملكونها أيضاً يا أنتم، ولكنكم لا تملكون الجرأةَ للاعترافِ بأنّ وهجَ يراعةٍ واحدةٍ قد يُحدثُ فرقاً. إنّهُ "أثر الفراشة " كما تعلمون، لكنهُ قدرُ الريحِ كما لا ترون.
قدر الريح، أو لعلها "صوفي"، التي قد تصبح شمعة يوماً، شمعةً من وهج "كالسفر".


-----------
ميازاكي (Hayao Miyazaki) : مخرج ورسام رسوم متحركة ياباني.

كالسفر، صوفي، هاول: أسماء شخصيات من فيلم (قلعة هاول المتحركة Howl's Moving Castle 2004)، من إخراج هاياو ميازاكي. عن رواية للمؤلفة البريطانية دينا وين جونز (Diana Wynne Jones).

إقرأ أيضاً: فلسطينيّان يبدعان في فنّ "البيت بوكس"
المساهمون