إلى الزاحفين على بطاح الجليل

05 يونيو 2016
قرية إم الزينات المحتلة عام 1948(قضاء حيفا/ العربي الجديد)
+ الخط -

شاخت النكبة. ثمانية وستون عاماً بلغت الشهر الماضي. لم يبق الكثير ممن شهدوها وعاشوا لوعتها، المضاعفة لاحقاً: فقد تبيَّن لمن حملوا مفاتيح بيوتهم، بل من تركوا طبخةً على النار، ودابَّةً في الخان، وحقل شعير لم يُحصد، أن العودة إلى روائح البيوت و"سترها"، ليست قريبة.

سيتضاعف الفقدان عندما تهدم القرى والبلدات بالبلدوزر، وتسيَّج الحدود بالألغام والأسلاك الشائكة، وتقوم عليها قوتان تحميانها من الجهتين. بعض هؤلاء كانوا أشد لوعة لأنهم خيَّموا على بعد مرمى البصر من قراهم التي يتعالى منها دخان القنابل وغبار الهدم. كانوا على بعد لهفة. و"خطفة" قدم.

طال الانتظار في ظلال الصوت العالي الصادح من إذاعات القومية العربية الحاكمة: "إلى عرب النكبة، عزة الثورة، إلى الزاحفين غداً على بطاح الجليل وصحراء النقب، إلى رافعي العلم العربي في سماء يافا وقمة الكرمل، إليكم صوت فلسطين من ....".

قلة يتذكرون، اليوم، هذا الصوت، فالموت، أحياناً، مثل النسيان، وأقل، بكثير، ممن ما زالوا يصدقون وعود إذاعته. لا أتحدث عن الشاعر يوسف الخطيب صاحب الصوت نفسه، بل راديو النظام القومي الذي استنفر كل ترسانته الحربية ليس لإعادة عرب النكبة إلى ديارهم، بل لإعادة شعبه الثائر على كرسيه، الوراثي، إلى حظيرة الطاعة.

شاخت النكبة، وطال الانتظار بفضل هؤلاء، وغيرهم ممن كانوا يرتدون الكاكي أمام الكاميرات ويفاوضون العدو تحت الطاولة، أو أولئك الذين يتخلّون عن جزيرة قريبة من خط النار، عندما كان هناك نار، ثم لا يلبثون أن يستعيدوها، كمنتجع سياحي، أو مخفرٍ لممرٍّ تجاري، عندما تصمت المدافع، تماماً، على الجبهة.

لكن الشيخوخة المحزنة للنكبة تمَّت بفضل الذين نصَّبوا أنفسهم حراساً على القضية، وممثلا شرعياً وحيداً لشعب القضية. هنا نكبة النكبة. بالأخص مذ دخلت م. ت. ف. المقاتلة في غيبوبة أوسلو.

في الطور الأوسلوي للثورة تسارعت شيخوخة القضية. تقزَّمت قضية شعب في سبيل التحرر من الاستعمار الإسرائيلي إلى بناية في رام الله تسمَّى "المقاطعة" تدار من أروقتها الفاسدة شؤون بلدية منقوصة في أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة، ثم ما لبثت، القضية، بعد انقضاض حماس على سلطة فتح، حتى تقزَّمت أكثر وأكثر.

لست ضد الواقعية السياسية. ولست ضد المقولة الشهيرة "إن الحفاظ على الذات، أحياناً، مهمة ثورية". ولكن هناك فرق بين الواقعية السياسية والانبطاح التام أمام الواقع. فهذا الأخير ليس اللحظة الراهنة. إنه الماضي والحاضر والمستقبل معجوناً في سبيكة واحدة. إنه ليس ميزان القوى فقط بل الإرادة. خصوصا لثورة. وهناك فرق بين "الحفاظ على الذات" باعتباره مهمة ثورية وبين الحفاظ على المصالح الصغيرة، الشخصية، أو الفصائلية. فهذه هي الذات في انحطاطها. وفي سقوطها من علو مشروعها.

عندما نقف على اللحظات المفصلية في تاريخ الشعب الفلسطيني نعرف أنه لا يحتاج إلى عون خارجي (حتى من الأشقاء) لكسر توازن ليس في صالحه. لقد فعل ذلك في ثورات الثلاثينيات من القرن الماضي. ثم في ثورة الستينيات المسلحة، ثم في الانتفاضة الأولى، ثم في الانتفاضة الثانية.كل هذه المفاصل المجيدة في تاريخ الفلسطينيين لم تفتح أمامهم خزائن النظام العربي ومخازنه، بل حدثت ، كلها، ضد إرادة هذا النظام، لكنها توقفت على بعد أمتار من التحول إلى منجز ملموس بسبب فقدان القيادة غير القابلة للمساومة، القيادة التي لا ترتهن لنظام عربي مهما كان صادقاً في رغبته في المواجهة. القيادة التي ترتمي في الشارع مع المعتصمين، ورماة الحجارة.

من يؤمن بحق شعبه، بالقوة الكامنة فيه، بالضمير الإنساني، وإمكانية تفعيله، لا يبحث عن حلول مع توني بلير ولا مع "الرباعية"، بل يعود الى المربع الأول: الشعب ذاته. لا عودة لمنتظري العودة، ولا عودة للاهتمام بالقضية الفلسطينية باعتبارها آخر قضية شعب تحت الاحتلال، إلا بالخروج من نفق أوهام التسوية. فمع إسرائيل، كما هي عليه الآن، لا وجود لتسوية مهما كانت انبطاحية.

المساهمون