لا يتوقف الحديث عن سمات عصر ما بعد الحداثة، وعن الانتقال من الفترة الصلبة إلى أخرى سائلة، من آثارها انتقال الثقافة وأشكالها كما عرفها البشر تقليدياً إلى ما صار يعرف بـ"الثقافة الرقمية". يثير هذا الكثير من الأسئلة التي تطرحها وسائل التواصل الاجتماعي عن الحرية والديمقراطية وحتى الإنتاج المعرفي الذي وصلنا إليه، ومآلاتها في ظل "الثقافة الرقمية" تلك.
يشيد كثيرون بثقافة الإنترنت التي نعيشها اليوم ويرونها ثقافة تتعاطف مع قيم الانفتاح والحرية والتسامح، بل يذهب بعضهم إلى إطلاق صفة العلمانية على متبنيها مثل الباحثة الأميركية بيبا نوريس التي تؤكد بأن مستخدمي ثقافة الإنترنت هم أقل ميلاً للأصولية وأقل ميلاً لتأكيد أهمية الطقوس الدينية، وهي مقولة خلافية ذلك أن "الأصولية والخطاب الديني"، وكذلك التحريض الطائفي في وسائل التواصل الاجتماعي هي في منحى متصاعد منذ أصبحت هذه الوسائل في متناول الجميع.
في قلب ذلك كله ثمة تباكٍ على ضياع هويتنا الثقافية وسط طوفان الكلمات والأصوات والصور التي غزت العالم في نهاية القرن العشرين. ويتحسر بعضهم بأن الفن تلاشى وزالت معه الخبرة الجمالية في المجالات المتنوعة واستُبدلت بفن قبيح. كذلك بات من الصعب التمييز بين الثقافات التي ظهرت في بلداننا وبين تلك التي جُلبت إلينا من الخارج، بعد أن أضحت "الإنكليزية" اللغة العالمية اليوم، حيث إن الأدب العالمي المتخصص باللغة الإنكليزية في تطور مستمر. بالإضافة إلى أن الأدب أعاد إنتاج مواده بطريقة آلية منذ نصف ألفية مضت، فعلى سبيل المثال، لم تعد القصيدة تلقى في عرض أداء عام، بل ببساطة أصبحنا نتلقاها من على الشاشة أو الورق أو عبر الهاتف الذكي.
هذه المخاوف وغيرها تدفع المثقفين والباحثين اليوم لإيجاد أجوبة حول مصير الفن والثقافة، وكيف سيبدوان في المستقبل المخطوف حكماً بالصورة؟
بيد أن قلة فقط هي من تحاول إعطاء فسحة من الأمل ليس عن ولادة فن أفضل، ولكن وأيضاً للتأكيد بأن الفنون مستمرة في عصور ما بعد الحداثة. من هؤلاء المؤرخ والمفكر الماركسي البريطاني إريك هوبزباوم في كتابه "أزمنة متصاعدة، الثقافة والمجتمع في القرن العشرين"، والذي يرى أن الكتاب المطبوع سيحافظ على موقعه بالرغم من جميع التكهنات المتشائمة بزواله، ويقول: "لن يقتل الكتاب المطبوع بسبب تقدم الكومبيوتر، بالضبط كما لم تقتله السينما أو الراديو أو التلفزيون أو غير ذلك".
من المؤكد أنه على مدى العقود التي مضت حدثت قفزة كبيرة في ما يخص الفن بشكل لم يتنبأ به أحد، ولكن هل يكون سبب جميع التوقعات المتشائمة، المبالغ بها بعض الشيء، هو فقدان الثقة بالقدرة على الاستمرار بالتقدم والتطور في ظل ما نشهده الآن من طفرة في المعلومات؟ أم التناسي بأن الرغبة بإيجاد معرفة واحدة وفن واحد لجميع المجالات هو الأمر الذي لم نعد بحاجة إليه الآن، بل العكس، ما ينقصنا هو إيجاد مسارات متعددة ومتنوعة في حياتنا ومختلفة؟
لكن هل كل ما سبق عوارض لمعركة دونكوشتية لا معنى لها؟ ذلك أنه سواء قرأنا كتاباً إلكترونياً أو مطبوعاً، أو نشهد فناً تقليدياً أو معاصراً، أو نطرب لموسيقى كلاسيكية أو إيقاعية مستقبلاً، وعبر أية وسيلة ما، تقليدية أو حديثة، فلا فرق جوهري في الأثر الناتج، مقارنة بأهمية استمرار الإنتاج الأدبي والمعرفي، والسعي دائماً لصياغة الأمور والأشياء وفقاً للزمن الذي نعيشه لا الذي تفرضه علينا نظريات قديمة قد تثبت فشلها في التنبؤ بمستقبلنا العاجل أو الآجل.
اقرأ أيضا
شَريكٌ في القرصنة!
نبوءة موت الكتاب المطبوع
يشيد كثيرون بثقافة الإنترنت التي نعيشها اليوم ويرونها ثقافة تتعاطف مع قيم الانفتاح والحرية والتسامح، بل يذهب بعضهم إلى إطلاق صفة العلمانية على متبنيها مثل الباحثة الأميركية بيبا نوريس التي تؤكد بأن مستخدمي ثقافة الإنترنت هم أقل ميلاً للأصولية وأقل ميلاً لتأكيد أهمية الطقوس الدينية، وهي مقولة خلافية ذلك أن "الأصولية والخطاب الديني"، وكذلك التحريض الطائفي في وسائل التواصل الاجتماعي هي في منحى متصاعد منذ أصبحت هذه الوسائل في متناول الجميع.
في قلب ذلك كله ثمة تباكٍ على ضياع هويتنا الثقافية وسط طوفان الكلمات والأصوات والصور التي غزت العالم في نهاية القرن العشرين. ويتحسر بعضهم بأن الفن تلاشى وزالت معه الخبرة الجمالية في المجالات المتنوعة واستُبدلت بفن قبيح. كذلك بات من الصعب التمييز بين الثقافات التي ظهرت في بلداننا وبين تلك التي جُلبت إلينا من الخارج، بعد أن أضحت "الإنكليزية" اللغة العالمية اليوم، حيث إن الأدب العالمي المتخصص باللغة الإنكليزية في تطور مستمر. بالإضافة إلى أن الأدب أعاد إنتاج مواده بطريقة آلية منذ نصف ألفية مضت، فعلى سبيل المثال، لم تعد القصيدة تلقى في عرض أداء عام، بل ببساطة أصبحنا نتلقاها من على الشاشة أو الورق أو عبر الهاتف الذكي.
هذه المخاوف وغيرها تدفع المثقفين والباحثين اليوم لإيجاد أجوبة حول مصير الفن والثقافة، وكيف سيبدوان في المستقبل المخطوف حكماً بالصورة؟
بيد أن قلة فقط هي من تحاول إعطاء فسحة من الأمل ليس عن ولادة فن أفضل، ولكن وأيضاً للتأكيد بأن الفنون مستمرة في عصور ما بعد الحداثة. من هؤلاء المؤرخ والمفكر الماركسي البريطاني إريك هوبزباوم في كتابه "أزمنة متصاعدة، الثقافة والمجتمع في القرن العشرين"، والذي يرى أن الكتاب المطبوع سيحافظ على موقعه بالرغم من جميع التكهنات المتشائمة بزواله، ويقول: "لن يقتل الكتاب المطبوع بسبب تقدم الكومبيوتر، بالضبط كما لم تقتله السينما أو الراديو أو التلفزيون أو غير ذلك".
من المؤكد أنه على مدى العقود التي مضت حدثت قفزة كبيرة في ما يخص الفن بشكل لم يتنبأ به أحد، ولكن هل يكون سبب جميع التوقعات المتشائمة، المبالغ بها بعض الشيء، هو فقدان الثقة بالقدرة على الاستمرار بالتقدم والتطور في ظل ما نشهده الآن من طفرة في المعلومات؟ أم التناسي بأن الرغبة بإيجاد معرفة واحدة وفن واحد لجميع المجالات هو الأمر الذي لم نعد بحاجة إليه الآن، بل العكس، ما ينقصنا هو إيجاد مسارات متعددة ومتنوعة في حياتنا ومختلفة؟
لكن هل كل ما سبق عوارض لمعركة دونكوشتية لا معنى لها؟ ذلك أنه سواء قرأنا كتاباً إلكترونياً أو مطبوعاً، أو نشهد فناً تقليدياً أو معاصراً، أو نطرب لموسيقى كلاسيكية أو إيقاعية مستقبلاً، وعبر أية وسيلة ما، تقليدية أو حديثة، فلا فرق جوهري في الأثر الناتج، مقارنة بأهمية استمرار الإنتاج الأدبي والمعرفي، والسعي دائماً لصياغة الأمور والأشياء وفقاً للزمن الذي نعيشه لا الذي تفرضه علينا نظريات قديمة قد تثبت فشلها في التنبؤ بمستقبلنا العاجل أو الآجل.
اقرأ أيضا
شَريكٌ في القرصنة!
نبوءة موت الكتاب المطبوع