إلزا غودار.. التحليل النفسي في زمن "السيلفي"

02 سبتمبر 2019
(إلزا غودار، تصوير: تيري راجيك)
+ الخط -

في بداية هذا العام، صدر بالعربية كتاب "أنا أوسيلفي إذن أنا موجود" للمحللة النفسية الفرنسية إلزا غودار (1978)، بترجمة أنجزها الباحث المغربي سعيد بنكراد. إنه أوّل عمل لها يصل إلى العربية، وهي التي سبق أن أصدرت أعمالاً كثيرة من بينها: "الكائن الصريح" (2006)، و"ما يرتبط بي" (2011)، و"أن نكون أفضل مع أنفسنا" (2012).

وعلى الرغم من أن هذه العناوين توحي بأن مضامينها خفيفة، حيث تعتمد غودار نظام عنونة قريب من كتب ما يُعرف بـ"التنمية البشرية"، إلا أن أعمالها تظلّ ضمن مجال علم النفس وقد تدفع بها إلى حواف حقول معرفية أخرى مثل الفلسفة والمستقبليات، ملامسةً محاور فكرية كبرى مثل اللغة والهوية والتكنولوجيا والأخلاق والتحوُّلات النفسية. في كلّ ذلك تبدو غودار وكأنها تتحرّك في مجال يمسحه معنى الثقافة في الألمانية Kultur وليس بالمعنى الفرنسي Culture الذي يحصره في الأشكال النخبوية منها.

وفي الحقيقة، لا تتحرّج غودار من تصنيف بعض أعمالها ضمن مجال التنمية البشرية، ولا تعتبر ذلك تقليلاً من قيمة إصداراتها، حيث ترى أن تخصّصات كبرى مثل علم النفس والفلسفة لا تتنافى مع أهداف التنمية البشرية، غير أن المنتسبين إلى هذه الأخيرة قد نقلوها، خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية، إلى اتجاهات تسويقية جعلت من العلماء ينفرون ويترفّعون عن أي تقاطع معها. لعلّها تتساءل: أيَّ معنى للتنمية البشرية دون محتوى فلسفي أو علم نفسي؟ بل ترى أن هذه الممارسة غير العلمية باتت مجبَرة على تغذية نفسها بجديد العلوم الإنسانية والطبيعية لتحافظ على وجودها، ومن ذلك ظهور "السوفرولوجيا" التي أسّسها الطبيب الكولومبي ألفونسو كايسيدو واستنادها إلى الفلسفة وخصوصاً الفينومينولوجيا.

في كتاب "أنا أوسيلفي إذن أنا موجود"، تتلاعب غودار بعبارة مؤسسة في تاريخ الفلسفة؛ هي "أنا أفكّر إذن أنا موجود" لـ رينيه ديكارت، وهو ليس تلاعباً لفظياً فحسب، وإنما محاولة لوضعنا مباشرة أمام القطائع التي يعيشها الإنسان بين عصر وآخر، انطلاقاً من مسألة تبدو عارضة وبسيطة؛ تلك الصورة التي يلتقطها كثيرون لأنفسهم وسرعان ما ينشرونها على مواقع التواصل الاجتماعي.

على بساطتها، ترى غودار أن هذه العملية متفرّعة في مساحات متشعبة من النفس، هي مثل جبل الجليد الذي لا يظهر منه سوى الجزء السطحي فيما يستمرّ بعيداً في الأعماق؛ فمن خلاله لنا أن نحلّل النرجسية، وأثر التكنولوجيا والعصر الرقمي على أنماط الحياة، وتحوّل الصورة كخطاب مستقلّ بذاته، وصولاً إلى ما تسمّيه بـ"ثورة الأنا".

تخلص غودار إلى أن هواتفنا باتت تُغيّر بشكل جذري في علاقتنا بالعالم العاطفي، وبالعالم بشكل عام؛ إذ تشير مثلاً إلى أن الهاتف بات الشريك الأقرب للإنسان الحديث، مُحدثاً حوله دائرة أولى قبل أي علاقة بشرية، كما أنه يسهّل الانسحاب من عالم العلاقات البشرية، وهو ما تمكن ملاحظته في أماكن التجمعات العامة كوسائل النقل أو الخدمات الاجتماعية، فتحضر الأجساد فيما تكون العقول في عوالم أخرى.

هذه القراءة النفسية تُتبعها غودار ببُعدها الاجتماعي، حيث تجعل هذه الممارسات من المجتمع مسرحاً لتجسيدات الأنا، والذي يمثّل فيسبوك خشبته الحية، وهي تحفر في التسمية نفسها، فتشير إلى أن كلمة "فيسبوك" تعني في النهاية "كتاب الوجوه"، هناك يصبح الأنا علامة للترويج، وفي هذا الإطار لا نكون إلّا إذا كنّا مرئيين، ومع اتساع نطاق الظاهرة يصبح السيلفي مقاومة للموت الرقمي.

تذهب غودار أبعد في أسئلتها، ففي كتاب لاحق تطرح سؤال: "هل سيختفي التحليل النفسي؟" (2018)، وهو عمل تضع فيه مجال اختصاصها على محك الفكر النقدي انطلاقاً من تحوُّلات الإنسان المعاصر، في وقت انبنت فيه فرضيات التحليل النفسي على إنسان نهاية القرن التاسع عشر. بالنسبة إلى غودار، ليس من مسلَّمات الأمور القول بأن يكون التحليل النفسي قادراً على التأقلم مع الإنسان المعاصر، وهي تدعو بالتالي إلى إعادة فهم فرضيات هذا الحقل المعرفي انطلاقاً من الإنسان ما بعد الحداثي، وجعل التحليل النفسي يفكّر في الأنواع الجديدة من "القلق" التي تخترق الحضارة، وإلا فسيكون مجرّد قطعة متحفية في تاريخ المنهجيات العلمية لفهم الإنسان.

من زاوية أخرى، تعتبر غودار أن من الأخطار التي يتعرّض لها التحليل النفسي أن يصبح في التمثّل العام مجرّد طريقة علاج، بحيث ينسحب المحللون من الأفق الإنساني الأشمل ليبيعوا خبراتهم إلى زبائن في حاجة إلى مهدّئات ومسكّنات.

آخر إصدارات غودار كان نصاً مسرحياً بعنوان "هيلويز الجديدة"، وهي بذلك تُظهر محاولة حضور في أجناس كتابة مختلفة، ناقلة إشكاليات علم النفس إلى محامل نصّية متنوعة، وهو شكل من أشكال الحضور الثقافي ينضاف إلى حضورها في الجمعيات العلمية وفي مؤسسات النشر كمديرة للسلاسل ومشرفة على قرابة 15 كتاباً جماعياً ("الأدب والسياسة"، و"الاعتقاد"، "العدالة"، "هل توجد أوروبا فلسفية؟"، "اختراع الآخر"، "تصفية مايو 1968"...).

دلالات
المساهمون