إغلاق وهمي سعودي لقضية خاشقجي
أعلنت النيابة العامة السعودية، يوم 7 سبتمبر/ أيلول الجاري، عن إغلاق ملف قضية الصحافي جمال خاشقجي الذي قتل في القنصلية السعودية في إسطنبول، أكتوبر/ تشرين الأول 2018، وعن تخفيض عقوبة الإعدام لخمسة متهمين إلى السجن عشرين عاماً، بعد تنازل أولياء الدم، مع عقوبات بالسجن إلى نصف المدة تقريباً لثلاثة متهمين آخرين. وبناء عليه، اعتبرت الملف الجزائي منتهياً تماماً، بشقّيه العام والخاص. وقد مثّل إغلاق القضية بهذه الطريقة هدفاً للسلطات السعودية منذ الأيام الأولى للجريمة، ما تبدّى في رفض التعامل الإيجابي والتعاون مع السلطات التركية، ثم بإجراء محاكمة هزلية صورية افتقدت إلى الحد الأدنى من معايير الشفافية والنزاهة والعدالة الدولية.
وكانت السلطات التركية قد عرضت، منذ اليوم الأول، التعاون والتحقيق المشترك مع الرياض، كون الجريمة وقعت على أراضيها، واتفاقية فيينا التي تنظم أسس التبادل الدبلوماسي بين الدول لا تحمي الدبلوماسيين المتهمين، كونها لا تجيز لهم ارتكاب الجرائم وتجاوز القانون، ولكن السلطات السعودية ماطلت، وأزالت عن عمد آثار الجريمة في القنصلية ومنزل القنصل. وعندما أرسلت النائب العام، سعود المعجب، إلى إسطنبول للتباحث التفصيلي بشأن أوجه التعاون والتحقيق المشترك، تصرّف الأخير وكأنه في زيارة سياحية أكثر منها زيارة عمل، ولم يقدّم أي شيء جدّي، وبدا مهتماً فقط بمعرفة ما لدى السلطات التركية من أدلة. ثم غادر مع كمّ كبير من الحلوى والمكسّرات، في مشهد أثار الاستهجان والغضب في تركيا.
مثّل إغلاق القضية هدفاً للسلطات السعودية منذ الأيام الأولى للجريمة، في رفض التعامل الإيجابي والتعاون مع السلطات التركية، ثم بإجراء محاكمة هزلية صورية
بعد ذلك أجرت السلطات السعودية محاكمة للمتهمين افتقدت إلى أدنى المعايير القضائية الدولية. ومنذ البداية، تجنّبت الإجابة عن الأسئلة المحورية الثلاثة؛ من أعطى الأوامر لتنفيذ الجريمة؟ وأين جثة خاشقجي؟ ومن هو المتعاون المحلي الذي تقول الرواية الرسمية التي أعلنتها النيابة السعودية الرسمية إنه تولّى إخفاء الجثة؟ وقد سعت المحاكمة السعودية، منذ اللحظة الأولى، إلى تبييض صفحة القيادة، وتحديداً الحاكم الفعلي ولي العهد، محمد بن سلمان، ونفي أي طابع سياسي عن الجريمة السياسية أصلاً. ولذلك منعت الاتهام والمحاكمة عن اثنين من أقرب مساعدي بن سلمان وأبرزهم، نائب رئيس المخابرات المسؤول المباشر عن إرسال فريق التنفيذ إلى إسطنبول، أحمد عسيري، وسعود القحطاني الذي تولّى أصلاً التواصل والتفاوض، وحتى تهديد خاشقجي، باسم بن سلمان، لإسكاته ودفعه إلى العودة إلى السعودية، طوعاً أو كرهاً.
المحاكمة على علّاتها البنيوية السابقة بدت هزلية وصورية، وغاب عنها أدنى معايير الجدية والشفافية، كما نقلت صحيفة صباح التركية، في 13 إبريل/ نيسان الماضي، عن أحد الدبلوماسيين الأتراك الذي تابع بعض جلساتها، وشاهد بأمّ عينيه لا مبالاة المتهمين واستهتارهم.
ووصفت المحققة الأممية المعنية بالإعدامات خارج المحاكمة، أغنيس كالامارد، والتي كلّفها مجلس حقوق الإنسان بالتحقيق غير الرسمي في الجريمة، المحاكمة بالمثيرة للسخرية، كونها جرت خلف أبواب مغلقة، وبما يتناقض مع القانون الدولي، ولم تنظر أبداً في مسؤوليات الدولة عن الجريمة التي ارتكبها موظفون رسميون.
المحاكمة على علّاتها البنيوية السابقة بدت هزلية وصورية، وغاب عنها أدنى معايير الجدية والشفافية
وعلى ضوء ما سبق، لم يكن إغلاق السلطات السعودية ملف القضية نهائياً، بشقّيه العام والخاص، مفاجئاً، وجاء متساوقاً مع كل خطواتها منذ وقوع الجريمة، الأمر الذي أثار ردود فعل دولية غاضبة ورافضة، أهمها جاء من تركيا التي وقعت الجريمة على أراضيها، كما من الأمم المتحدة ومنظماتها المعنية بحقوق الإنسان، فقد قال مسؤول الاتصال في الرئاسة، فخر الدين ألتون، إن المحاكمة لم تلب تطلعاتها، ولم تجب عن الأسئلة الجوهرية الثلاثة: من أعطى الأوامر بتنفيذ الجريمة؟ وأين جثة جمال؟ وما هوية المتعاون المحلي الذي تقول الرياض إنه تولّى إخفاء الجثة؟ وهي اللغة نفسها التي تحدث بها ياسين أقطاي، مستشار الرئيس أردوغان، مع التأكيد على مضي تركيا في المسار القضائي الخاص بها، الجدّي المهني والشفاف.
وعموماً، بدا ردّ الفعل التركي دبلوماسياً وهادئاً، لعدة أسباب، منها أن أنقرة كانت حريصة دوماً على عدم اعتبار القضية أزمة خلافية، أو بؤرة توتر مع الرياض، وإنما محفزاً للتعاون والعمل الثنائي المشترك لتحقيق العدالة ومحاسبة المجرمين، كما أنها منشغلة في ملفاتٍ وجبهاتٍ عدة، سياسية اقتصادية عسكرية وأمنية، ولا تقل شأناً عن ذلك. ويتماهى هذا الموقف مع سياسات تركيا العامة الساعية إلى الاحتفاظ بعلاقة جيدة أو هادئة مع السعودية، والتمييز بينها وبين الإمارات التي باتت على بؤرة الاستهداف التركي، وفي عدة جبهات وساحات، على الرغم من يقين أنقرة بأن توجهات الرياض العدائية تجاهها تأتي أساساً من أبوظبي، وتتساوق مع السياسات الدموية المتغطرسة لحاكمها الفعلي، محمد بن زايد. وبالتأكيد، لا يعني هذا التنازل عن أسس المقاربة التركية لقضية خاشقجي، حيث ستستمر المحاكمة التي انطلقت في سياقها القضائي الإجرائي الجدّي الشفاف، وستنتهي حتماً بأحكام رادعة بحق المتهمين، وإجابة عن الأسئلة المطروحة، بما فيها السؤال الجوهري عن الطابع السياسي للجريمة.
قضية لن تُغلق أبداً كما توهّمت الرياض، إلا بجلاء كل خباياها وتفاصيلها، ومحاسبة جدّية للمجرمين كلهم
وجاء التوصيف الأبرز من أغنيس كالامارد، إذ لخّصت، كعادتها بمهنية ونزاهة، القرار السعودي إغلاق الملف، وقالت إن الأحكام النهائية لا تتصف بأي مشروعية قانونية أو أخلاقية، وصدرت عن عملية لم تكن منصفة ولا عادلة ولا شفافة.
ما جرى كان متوقعاً، وإغلاق القضية كان مسألة وقت فقط، أما إعلانه الآن فمرتبط مباشرة بقمة مجموعة العشرين التي ستُعقد في الرياض نهاية العام الحالي، والرغبة السعودية في تبييض صفحة بن سلمان قبلها، وطبعاً استخدامها المحاكمة والتهويل بأحكام السجن التي بلغت أكثر من مائة عام لثمانية متهمين، لتسويغ إغلاق الملف نهائياً. غير أن إغلاق القضية لن يحدث أبداً، لأن تركيا ستستمر في مسارها القضائي، وستكون أحكام بحق 20 متهماً وليس ثمانية فقط، مع تجديد مذكرات الاعتقال بحقهم التي كانت قد أصدرتها السلطات التركية فعلاً، عند صدور لائحة الاتهام. كذلك سيمارس مجلس حقوق الإنسان الأممي صلاحياته، وستستمر أغنيس كالامارد في ملاحقة القضية التي لن تغلق أبداً كما توهّمت الرياض، إلا بجلاء كل خباياها وتفاصيلها، ومحاسبة جدية للمجرمين كلهم، وليس الأدوات والمنفذين فقط، وإنما من أعطاهم الأوامر، ومن وفّر لهم الحماية السياسية والقضائية فيما بعد.