والواقع أن حقيقة تثبيت الدور الإسرائيلي، وهو الأكبر بعد ضخّ المال من المانحين، قد جرت في الاتفاق الثلاثي الذي جرى التوصل إليه أخيراً بين منسّق الأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط روبرت سيري، ورئيس الحكومة الفلسطينية رامي الحمدالله، ومنسّق أعمال الاحتلال في الضفة الغربية والقطاع الجنرال بولي مردخاي. فبمجرد قبول الطرف الفلسطيني ممثلاً بالحمدالله، أن يكون المُوقّع على الاتفاق، من الطرف الإسرائيلي هو جنرال عسكري له دور أمني بامتياز، فإنّ ذلك حدّد طبيعة أعمال إعادة إعمار غزة، وحجم الدور الإسرائيلي وطبيعته في تسيير عمليات البناء وإدخال المواد المختلفة إلى قطاع غزة، مع دور شبه رمزي للجانب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية.
عملياً، ستكون إسرائيل وبواباتها البرية، الآمرة الناهية في المشروع برمته، فإذا شاءت أوقفت ضخّ المواد إلى غزة، وإذا أرادت أيضاً تسمح بإدخال هذه المواد إلى القطاع تحت شروطها، من دون أن يكون للجانب الفلسطيني عملياً أي قدرة على الاعتراض.
ويعني هذا الأمر أنه بعد انفضاض مؤتمر المانحين لإعمار غزة في القاهرة، ومغادرة الوزراء والزعماء العاصمة المصرية، سيبدأ تنظيم عملية إعادة الإعمار، مع إعطاء حصة الأسد من الصلاحيات للاحتلال الإسرائيلي، ليقرر بنفسه ما سيدخل غزة، وما لن يدخل، وبأي وتيرة وكميات، ووفق أي شروط عملياتية، وبأي سيارات شحن، وغيرها من التفاصيل التي قد تبدو صغيرة، لكنها في واقع الحال تؤكد تحكّم إسرائيل بالمشروع كله.
ويُضاف إلى ذلك، الشروط الأمنية والعراقيل البيروقراطيّة التي ستضعها حكومة الاحتلال، والتي اعتادت خلال سنوات الحصار أن تلهو حتى بنوعيّة وحجم الكميات المتاح إدخالها للفرد الفلسطيني الواحد من الأمور البسيطة. فإسرائيل باعتراف ليبرمان، مطمئنة إلى انشغال العالم كلّه اليوم بما يدور في سورية والعراق والحرب على "الدولة الإسلامية" (داعش)، وفي جهود مكافحة وباء "إيبولا" التي انضمت إليها إسرائيل أخيراً. وأعرب ليبرمان في هذا السياق أيضاً، عن سروره لانضمام رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الجهد الدولي في مكافحة "إيبولا"، الأمر الذي يساهم بحسب ليبرمان أيضاً، في تحسين صورة إسرائيل في المحافل الدوليّة.
وأكثر ما يبرز حقيقة الدور الأكبر الذي حصل الاحتلال عليه في ضبط وتسيير مشروع إعادة إعمار غزة مستقبلاً، وفق مصالحه الأمنيّة والسياسيّة، من دون أي مجال لاعتراض من حكومة رام الله، هو الطمأنينة التي تحدث بها ليبرمان أمس من دون أي تشنّج، بل إنه حدّد أن المشروع لن ينجح من دون الدور الإسرائيلي، مشيراً إلى تحكُّم إسرائيل بالمعابر والحدود، والى أن التفاهمات مع الإدارة الأميركيّة توضح حجم الدور الإسرائيلي، خصوصاً وأنّ الإدارة الأميركية كانت شددت خلال نهاية الأسبوع الماضي، على وجوب أن تضطلع إسرائيل بدور هام في عمليّة إعمار غزة.
كما أن الاتفاق الثلاثي أو التفاهم الثلاثي بين الحمدالله وسيري ومردخاي، تضمّن تفاهمات بشأن الشرط الإسرائيلي المتعلق بضرورة عدم تمكين حركة "حماس" من تحسين قدراتها القتالية وعدم تعزيز قوتها، وهي التفاهمات التي ألمح إليها ليبرمان بقوله لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، إنّ هناك عدداً غير قليل من التفاهمات بشأن إعادة إعمار غزة.
وتتيح هذه التفاهمات للاحتلال، خصوصاً في ظلّ اعتماد مردخاي ممثلاً لإسرائيل، التركيز على إعادة إعمار القطاع لزرع الأمل في نفوس الغزيين، ضمن مخطط تحييد "حماس" وعزلها عن بيئتها الحاضنة من جهة، وإرجاء كل حديث عن تسوية سياسية أو حتى تفاهمات لوقف إطلاق النار بشكل دائم بالاعتماد على الخط الذي حددته حكومة نتنياهو، والقائل بوجوب اختبار عباس في قطاع غزة، من جهة ثانية.
وتتماشى هذه المعطيات مع الخط الأخير الذي حدّده نتنياهو في سياسته، وهو نقل المواجهة والمحادثات مع الفلسطينيين من مربّعات إدارة الصراع سياسياً وأمنياً إلى مربّع "التنسيق الأمني" الشامل في القطاع، مع انتشار قوات السلطة الفلسطينية في غزة والضفّة الغربيّة، وتأجيل الفصول السياسية والاقتصادية إلى أجل غير مسمى.