13 فبراير 2022
إعادة تأسيس حركة النهضة التونسية
كما هو متوقع، أعلنت حركة النهضة التونسية الفصل بين جناحيها السياسي والدعوي، بعد حوالي أربعة عقود من الدمج بينهما. وقد أقرّ مجلس شورى الحركة، في اجتماعه الأخير، هذا الفصل، وذلك تمهيداً لطرحه على المؤتمر العام العاشر للحركة المزمع عقده الأسبوع المقبل. ويأتي هذا الفصل في سياق التطور الفكري والسياسي الذي تمر به الحركة، منذ بداية "الربيع العربي"، والذي ترك أثراً واضحاً على قيادات الحركة وطريقة تفكيرهم، وتناولهم الشأنين السياسي والديني. ولم يكن لمجلس الشورى أن يقرّ هذا الفصل، من دون وجود نقاش وحراك داخلي حسم الأمر لصالح الفصل أو التمييز. أما الملفت للنظر، في الأيام الأخيرة، هو تصريح الشيخ راشد الغنوشي، زعيم الحركة، من أن حركته سوف "تتنقل من جماعة غلب على منهجها الاحتجاج إلى حركةٍ تقود الدولة وتؤسس فكر الدولة"، وأن "الصراع مع الدولة قد انتهى". ولعلها المرة الأولى التي نسمع فيها هذا التصريح من قيادة إسلامية بوزن الغنوشي. فجزء رئيس من أيديولوجيا الحركات الإسلامية (أو على الأقل تكتيكاتها) هو تغيير الدولة، وإنْ لم يكن فمعارضتها، وإن لم يكن فالاحتجاج على سياساتها، وذلك حتى تحول الأمر، مع بعض الحركات، إلى اعتبار الاحتجاج غايةً بحد ذاتها. وهو جزء من بنيتها، كحركات اجتماعية، تعتمد على الاحتجاج وسيلة رئيسية في التجنيد والتعبئة والتأطير. لذا، فإن تصريح الغنوشي الأخير بوضع حد للصراع بين الحركة والدولة، ينهي مرحلة الاشتباك السياسي والأيديولوجي بين الإسلاميين والدولة التونسية، والذي استمر قرابة أربعين عاماً. وهو تصريح لا يخلو من جرأة (وربما مغامرة) تعكس إدراكاً من الغنوشي بتغير موازين القوى في تونس، في مرحلة ما بعد الثورة، وقناعته بأن الإسلاميين التونسيين لم يعودوا مجرد "لاعبين في الهامش"، كما كانت هي الحال، وإنما أصبحوا جزءاً رئيسياً من المعادلة السياسية الراهنة، والتي لا يمكن لأحد تجاوزها، بل، في بعض الأحيان، كانوا هم الدولة.
قد يرى بعضهم تصريح الغنوشي تهوراً أو قفزة إلى المجهول، خصوصاً في ظل عدم ترسخ الحكم الديمقراطي في تونس، وإمكانية الارتكاس نحو السلطوية، وإنْ بدرجةٍ مختلفة، بيد أن ما هو ثابت الآن هناك هو عجز القوى الأخرى عن فرض نفسها قوة مهيمنة ومسيطرة، تستطيع أن تقصي غيرها من القوى، كما كانت الحال إبّان حكم بن علي. بل إن التحدّي الذي يواجه "النهضة" الآن (ويا للمفارقة) هو ذلك الفراغ الموجود على الساحة السياسية، والذي لا يمكن لقوى أخرى، باستثنائها، أن تملأه، خصوصاً بعد التفكك الذي أصاب حزب "نداء تونس" الذي يحكم البلاد. وقطعاً، فإن تصريح الغنوشي بنهاية الصراع مع الدولة لن يعجب إسلاميين كثيرين في العالم العربي، خصوصاً الذين لا يزالون يجابهون الدولة ويتحدّونها، ويعتبرونها خصمهم الرئيسي، ويديرون المعركة معها، من خلال معادلة صفرية "إما نحن أو هم".
ما نراه من تحولاتٍ في خطاب النهضة وممارستها ليس وليد اليوم، وإنما هو ثمرة سنوات من التحول التدريجي والبطيء والتدافع الداخلي، فمن يراجع أدبيات الغنوشي سوف يكتشف كثيرا من هذه التحولات الفكرية والسياسية، والميل باتجاه الواقعية السياسية، والتي قد يراها بعضهم تنازلاً عن "الثوابت". بكلمات أخرى، ما يحدث حالياً داخل حركة النهضة سبقه تمهيد وتأطير ونقاش داخل الحركة التي بات معظم أعضائها يؤمنون بما يسمونه "الفصل الوظيفي" بين الفرع الاجتماعي أو الدعوي للحركة، والفرع السياسي. وهو فصل، يقول المؤيديون، لن يضرّ بالحركة، أو يأخذ من شعبيتها، بل على العكس سوف يؤدي إلى وضوح الرؤية والاستراتيجية، بحيث لا يؤخذ النشاط أو الجانب الدعوي بأي مشكلاتٍ، أو معوقاتٍ قد تنجم عن الحسابات والمواقف السياسية للحركة.
كذلك لا يمكن فصل التحولات في خطاب "النهضة" وممارستها عن السياقات المحلية والإقليمية والدولية. وهي تحولاتٌ، وإن كشفت الاستعداد الفكري والتنظيمي للحركة وقادتها وقابليتهم للتغير والانتقال من مرحلة إلى أخرى، إلا أنها أيضاً تكشف عن قراءة واقعية لتعقيدات المشهدين، الداخلي والخارجي. بكلمات أخرى، قرار الحركة بالفصل بين الدعوي والسياسي، وإن جاء بالأساس نتيجةً للتطور الفكري للحركة، لكنه أيضاً لا يمكن قراءته بعيداً عمّا يمر به الإقليم من تطوراتٍ متسارعةٍ، كان أبرز عناوينها الأزمة العميقة التي يتعرّض لها الإسلام السياسي، كفكرة وكتيار وكمشروع. الأكثر من ذلك، يعكس هذا الفصل، إلى حد بعيد تأثير السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية على تطور التنظيمات الإسلامية. فلولا وجود قدر عالٍ من الحريّة والانفتاح في تونس، لما شهدنا هذا التطور في أفكار "النهضة"، والجرأة على الجهر بها وتنفيذها، ولما قرأنا التصريحات الجريئة للغنوشي. فقرار الفصل، أو بالأحرى التمييز بين المجالين السياسي والدعوي ليس أمراً سهلاً على الحركات الاجتماعية الكبيرة، مثل النهضة، وهو يتطلب استعداداً تنظيمياً ونفسياً كبيراً لدى الأعضاء، بحيث يتم الفصل بسهولة، ومن دون حدوث انقساماتٍ أو انشقاقاتٍ، مثلما حدث في حالات أخرى، كمصر واليمن والأردن.
وباعتقادي، سوف يكون القرار الجريء لحركة النهضة بفصل أنشطتها الدعوية والسياسية، خصوصاً إذا ما تم إقراره في مؤتمرها المقبل بمثابة ميلاد جديد للحركة، أو إعادة تأسيس لها، ولربما يمثل، إذا ما نجح، نموذجاً تقتدي به حركات أخرى في المنطقة.
قد يرى بعضهم تصريح الغنوشي تهوراً أو قفزة إلى المجهول، خصوصاً في ظل عدم ترسخ الحكم الديمقراطي في تونس، وإمكانية الارتكاس نحو السلطوية، وإنْ بدرجةٍ مختلفة، بيد أن ما هو ثابت الآن هناك هو عجز القوى الأخرى عن فرض نفسها قوة مهيمنة ومسيطرة، تستطيع أن تقصي غيرها من القوى، كما كانت الحال إبّان حكم بن علي. بل إن التحدّي الذي يواجه "النهضة" الآن (ويا للمفارقة) هو ذلك الفراغ الموجود على الساحة السياسية، والذي لا يمكن لقوى أخرى، باستثنائها، أن تملأه، خصوصاً بعد التفكك الذي أصاب حزب "نداء تونس" الذي يحكم البلاد. وقطعاً، فإن تصريح الغنوشي بنهاية الصراع مع الدولة لن يعجب إسلاميين كثيرين في العالم العربي، خصوصاً الذين لا يزالون يجابهون الدولة ويتحدّونها، ويعتبرونها خصمهم الرئيسي، ويديرون المعركة معها، من خلال معادلة صفرية "إما نحن أو هم".
ما نراه من تحولاتٍ في خطاب النهضة وممارستها ليس وليد اليوم، وإنما هو ثمرة سنوات من التحول التدريجي والبطيء والتدافع الداخلي، فمن يراجع أدبيات الغنوشي سوف يكتشف كثيرا من هذه التحولات الفكرية والسياسية، والميل باتجاه الواقعية السياسية، والتي قد يراها بعضهم تنازلاً عن "الثوابت". بكلمات أخرى، ما يحدث حالياً داخل حركة النهضة سبقه تمهيد وتأطير ونقاش داخل الحركة التي بات معظم أعضائها يؤمنون بما يسمونه "الفصل الوظيفي" بين الفرع الاجتماعي أو الدعوي للحركة، والفرع السياسي. وهو فصل، يقول المؤيديون، لن يضرّ بالحركة، أو يأخذ من شعبيتها، بل على العكس سوف يؤدي إلى وضوح الرؤية والاستراتيجية، بحيث لا يؤخذ النشاط أو الجانب الدعوي بأي مشكلاتٍ، أو معوقاتٍ قد تنجم عن الحسابات والمواقف السياسية للحركة.
كذلك لا يمكن فصل التحولات في خطاب "النهضة" وممارستها عن السياقات المحلية والإقليمية والدولية. وهي تحولاتٌ، وإن كشفت الاستعداد الفكري والتنظيمي للحركة وقادتها وقابليتهم للتغير والانتقال من مرحلة إلى أخرى، إلا أنها أيضاً تكشف عن قراءة واقعية لتعقيدات المشهدين، الداخلي والخارجي. بكلمات أخرى، قرار الحركة بالفصل بين الدعوي والسياسي، وإن جاء بالأساس نتيجةً للتطور الفكري للحركة، لكنه أيضاً لا يمكن قراءته بعيداً عمّا يمر به الإقليم من تطوراتٍ متسارعةٍ، كان أبرز عناوينها الأزمة العميقة التي يتعرّض لها الإسلام السياسي، كفكرة وكتيار وكمشروع. الأكثر من ذلك، يعكس هذا الفصل، إلى حد بعيد تأثير السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية على تطور التنظيمات الإسلامية. فلولا وجود قدر عالٍ من الحريّة والانفتاح في تونس، لما شهدنا هذا التطور في أفكار "النهضة"، والجرأة على الجهر بها وتنفيذها، ولما قرأنا التصريحات الجريئة للغنوشي. فقرار الفصل، أو بالأحرى التمييز بين المجالين السياسي والدعوي ليس أمراً سهلاً على الحركات الاجتماعية الكبيرة، مثل النهضة، وهو يتطلب استعداداً تنظيمياً ونفسياً كبيراً لدى الأعضاء، بحيث يتم الفصل بسهولة، ومن دون حدوث انقساماتٍ أو انشقاقاتٍ، مثلما حدث في حالات أخرى، كمصر واليمن والأردن.
وباعتقادي، سوف يكون القرار الجريء لحركة النهضة بفصل أنشطتها الدعوية والسياسية، خصوصاً إذا ما تم إقراره في مؤتمرها المقبل بمثابة ميلاد جديد للحركة، أو إعادة تأسيس لها، ولربما يمثل، إذا ما نجح، نموذجاً تقتدي به حركات أخرى في المنطقة.