إعادة انتخابات إسطنبول ومستقبل تركيا

21 يونيو 2019

مرشح "العدالة والتنمية"، بن علي يلدريم في إسطنبول (17/6/2019/الأناضول)

+ الخط -
ستكون مدينة إسطنبول وحدها على موعد مع إعادة انتخاب رئيس بلديتها الكبرى بعد غد الأحد، 23 يونيو/ حزيران الجاري، في سابقةٍ لم تشهدها الجمهورية التركية، بوصفها الأولى من نوعها، وذلك بعد أن قرّرت الهيئة العليا للانتخابات التركية، في 6 مايو/ أيار المنصرم، إعادة انتخابات رئاسة بلديتها الكبرى فقط، متراجعةً عن إعلانها فوز مرشح تحالف المعارضة، أكرم إمام أوغلو، في الانتخابات التي جرت في 31 مارس/ آذار الماضي، وأفضى ذلك إلى سحب وثيقة الفوز منه، بعد أن أدّى مهامه رئيسا لبلدية إسطنبول الكبرى مدة 18 يوماً فقط، بحجة وجود مخالفات في اختيار اللجان الاقتراعية ورؤسائها من ملاك القطاع العام، إضافة إلى وجود جداول من دون توقيع، معتبرةً أن ذلك أثّر في نتائج الانتخابات التي جرت.
وعلى الرغم من أن نتائج انتخابات نهاية مارس/ آذار قد أفضت إلى خسارة مرشحي حزب العدالة والتنمية في أغلب المدن الكبرى، إلا أن لخسارة إسطنبول معنى ومبنى مختلفين، بالنظر إلى أهمية هذه المدينة الكبرى، على مختلف الصعد، وإلى رمزيتها الخاصة لدى الأتراك بشكل عام، ولدى حزب العدالة والتنمية الحاكم بشكل خاص.
وتكمن أهمية إسطنبول في عوامل عديدة، جغرافية وتاريخية واقتصادية وسياسية، فضلاً عن أهميتها الدينية والثقافية، حيث تقع المدينة في إقليم مرمرة شمال غربي تركيا، ويحدّها من الشمال البحر الأسود، ومن الجنوب بحر مرمرة، فيما يقسم مضيق البوسفور المدينة إلى قسمين، شرقي وغربي، حيث يقع قسمها الشرقي في قارة آسيا على شبه جزيرة كوجالي، أما قسمها الغربي فيقع في قارة أوروبا على شبه جزيرة تشاتالجا، شرقي منطقة تراقيا الواقعة في جنوب شرقي البلقان. وتبلغ مساحة ولاية إسطنبول الكبرى 5461 كيلومترا مربعاً، وقسمت إدارياً إلى 39 بلدية، تشكل 27 منها المدينة المركزية. وبلغت ميزانيتها للعام الماضي 42 ملياراً و600 مليون ليرة تركية، أي حوالي 11 مليار و144 مليون دولار. أما عدد سكان مدينة إسطنبول فقد بلغ 15 مليونا و67 ألفا و724 نسمة، حسب بيانات هيئة الإحصاء التركية في العام الماضي، متجاوزاً بذلك التعداد السكاني لـ 131 دولة. ويشكل هذا العدد نحو 18.4% من إجمالي سكان تركيا، الذين بلغ عددهم مع نهاية العام الماضي، 82 مليونا و3 آلاف و882 نسمة.
وتعتبر إسطنبول المدينة الأهم اقتصادياً في تركيا، والبوابة الأهم للتصدير والاستيراد فيها. ووفقاً لبيانات معهد الإحصاء التركي السنوية، فقد قامت إسطنبول في العام الماضي، بتصدير حوالي 50٪ من الصادرات، و54٪ من عمليات الاستيراد في تركيا. وتغطي إسطنبول حوالي 35.1٪ من العمالة في تركيا، وتعتبر أيضاً مركزاً مهماً للتجارة البحرية الدولية مع موانئها التجارية وموقعها بوصفها ملتقى للأراضي والمياه الدولية.
رمزياً، تحظى إسطنبول بأهمية تاريخية ودينية وثقافية خاصة لدى عموم الأتراك وسواهم،
فضلاً عن أنها عاصمة ثلاث إمبراطوريات غابرة، وتصوّرها نابليون بوناترت عاصمة للعالم "لو كان واحداً"، بوصفها "المدينة التي اشتهاها العالم"، حسب المؤرخ فيليب مانسيل.
ويعتبر الأتراك أن من يفوز بانتخابات إسطنبول يحكم تركيا. وتجذّرت هذه المقولة عندما دشن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الخطوات الأولى في مساره السياسي من مدينة إسطنبول. كانت البداية من فوزه برئاسة بلديتها الكبرى في 27 مارس/ آذار عام 1994، حيث حقق نجاحاتٍ كبيرة فيها، وحاز على شعبية كبيرة لدى سكانها، الأمر الذي أعطاه دفعة قوية لحياته السياسية مع حزب العدالة والتنمية، منذ تشكل في عام 2001. وحافظ حزب العدالة والتنمية على الفوز ببلدية إسطنبول، منذ أول انتخابات خاضها في عام 2002. ولذلك شكلت خسارة رئاسة بلدية إسطنبول في انتخابات 31 مارس/ آذار الماضي، ضربة قوية لحزب العدالة والتنمية (الحاكم) فلم يسلم قادة الحزب بالخسارة، بل قدّموا طعونا واعترضاتٍ على نتائجها، قرّرت على أثرها الهيئة العليا للانتخابات إعادة الانتخابات لرئاسة بلديتها الكبرى فقط، حيث سيتوجه 10 ملايين و559 ألفا و686 ناخبا في إسطنبول، للإدلاء بأصواتهم بعد غد الأحد، 23 يونيو/ حزيران الجاري.
غير أن قرار الإعادة وضع الهيئة العليا للانتخابات في موضع اتهام، من المعارضة، بالخضوع للضغوط السياسية للقيادة الحاكمة، فيما ذهب آخرون إلى النّيل من الطبيعية المصطنعة للقرار الذي صُمم، حسب رأيهم، كي يناسب رغبات قادة حزب العدالة والتنمية (الحاكم)، ذلك أن الناخب الإسطنبولي أدلى بصوته في أربع ورقات اقتراع داخل مغلف واحد وضعه في الصندوق الانتخابي: لانتخاب مختار الحي، ولانتخابات المجلس البلدي في منطقته، ولانتخاب مجلس بلدية إسطنبول، ولانتخاب رئيس بلدية إسطنبول الكبرى. واعترض حزب العدالة والتنمية على نتائج الورقة الأخيرة فقط، مع أنها قدّمت جميعاً للجنة الانتخابية نفسها، ولذلك اعتبرت المعارضة قرار الإعادة سياسياً بامتياز. واللافت أن كلاً من الرئيس السابق، وأحد أهم مؤسسي حزب العدالة والتنمية، عبد الله غول، ورئيس الوزراء الأسبق وعضو الحزب، أحمد داود أوغلو، انتقدا قرار هيئة الانتخابات، والذي جاء بعد تقديم حزب العدالة والتنمية اعتراضات على نتائجها، ويشير إلى اهتزاز الثقة بصندوق الاقتراع، بعدما كان أحد مبادئ الشرعية التي تمسّك بها الحزب طوال مسيرته السياسية، باعتباره أساس الديمقراطية التمثيلية.
ويشهد تاريخ الانتخابات التركية التي خاضها حزب العدالة والتنمية على نجاحه بالفوز بها جميعاً، حيث خاض هذا الحزب معاركه ضد المؤسسة العسكرية التي كانت تتحكّم بمصير تركيا، من خلال صناديق الاقتراع، وكذلك احتكم إليها في صراعه مع المعارضة، ومع مختلف مراكز القوى في الجمهورية التركية. لذلك كان قادة حزب العدالة والتنمية يعتبرون صناديق الاقتراع المعبر الأوحد عن "إرادة الأمة".
وتستعد الأحزاب التركية للموعد الجديد لانتخابات إسطنبول، بعد أن قدّمت القائمة النهائية
لمرشحيها، التي تضم أربعة مرشحين عن الأحزاب السياسية و17 مستقلاً، إذ أبقى حزب العدالة والتنمية على مرشحه بن علي يلدريم، وأبقى كذلك حزب الشعب الجمهوري على مرشحه أكرم إمام أوغلو، وقدّم حزب السعادة، نجدت غوكجنار، مرشّحا عنه، فيما رشّح حزب الوطن مصطفى إيلكر يوجل.
ومع العد التنازلي للانتخابات، فإن الأحزاب المتنافسة كثفت من حملاتها الانتخابية، وحشدت جمهورها للموعد المنتظر، آخذة بالاعتبار تغيرات كثيرة طاولت المشهد السياسي التركي، وذلك بعد أن أعادت نتائج انتخابات نهاية مارس/ آذار الماضي تشكيل المشهد السياسي التركي، على الرغم من أنها انتخابات محلية، ثم جاء قرار الإعادة، كي يعطيها معنى سياسياً إضافياً، بحيث باتت ترتقي إلى مصاف استفتاء شعبي على مرحلة سياسية، تزعّم فيها حزب العدالة والتنمية المشهد السياسي التركي، وسيطر على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وولدت مرحلة جديدة، ستعيد رسم الخريطة السياسية لتركيا ما بعدها.
وفي ظل زيادة حدّة الانقسام السياسي والاجتماعي في تركيا، بات كل استحقاق انتخابي ينظر إليه بوصفه معركة انتخابية، تتخطّى حيزها التنافسي إلى الفضاء السياسي الأوسع، ما يفضي إلى زيادةٍ في الاستقطاب السياسي والاجتماعي. ومن أجل الفوز بنتيجة الانتخابات، سيعمد كل طرف إلى اتباع استراتيجيات جاذبة للجمهور العام، حيث يعوّلان على الفئة التي لم تصوّت لأي منهما في انتخابات 31 مارس/ آذار المنصرم. وهي فئة من الأتراك يقارب عددها المليوني ناخب، أي حوالي 25% من إجمالي الناخبين الإسطنبوليين، وتتوزع من حيث الولاء والانتماء بين طرفي التحالف، تحالف الجمهور، الذي يضم حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية وأحزابا أخرى صغيرة، وتحالف الشعب الذي يضم حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد وأحزابا أخرى صغيرة.
غير أن الكتلة الانتخابية التي يحسب الطرفان لها ألف حساب، ويحاولان جذبها للتصويت لصالحهما، هي الصوت الكردي، بالنظر إلى أن إسطنبول يقطنها أكبر تجمع للأكراد في تركيا، إذ يحق لما يقارب المليون ومائتي ألف ناخب التصويت فيها. ولذلك يريد كلا التحالفين استمالتها إلى جانبه. وفي هذا السياق، يمكن فهم الخطوة التي قامت بها الحكومة التركية بالسماح لمحامي زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، بزيارته للمرة الأولى منذ عام 2011، في سجنه بجزيرة آمرلي في 2 مايو/ أيار الماضي، وتمخضت الزيارة عن رسالة لأوجلان، دعا فيها "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) إلى حل المشكلات بالحوار، والمساهمة في صياغة الدستور، مع المحافظة على الخيار الديمقراطي في شمال شرق سورية، ضمن الدولة الواحدة، وأخذ الهواجس الأمنية التركية بالاعتبار. وتصطدم محاولة التحالف الحاكم استمالة الصوت الكردي لصالحه في انتخابات إسطنبول، بإعلان حزب الشعوب الديمقراطي، ذي الغالبية الكردية، استمرار دعمه مرشح تحالف المعارضة.
في المقابل، يخوض تحالف المعارضة الانتخابات مستنداً إلى الفوز الذي حققه في إسطنبول
وسواها، وإلى محاولته تجميع كل أطياف المعارضة وأحزابها تحت شعار العمل معاً لهزيمة حزب العدالة والتنمية. ويحاول تحالف المعارضة الاستفادة من صعود نجم مرشّحها، أكرم إمام أوغلو. ولذلك يريد الاستفادة من تشكيك التحالف الحاكم بنتيجة الانتخابات، وإظهار الظلم الذي أصابه جرّاء قرار إعادة للانتخابات، وتصوير ذلك نتيجة لتسلّط حزب العدالة والتنمية (الحاكم) على قرارات الهيئة العليا للانتخابات، الهيئة المفترض أن تكون قضائية ومستقلة.
وإن كان من الصعب أن يتقبل قادة وحزب العدالة والتنمية ومناصروه خسارة جديدة في انتخابات الإعادة المقبلة في إسطنبول، إلا أن فوزهم فيها لن يكون سهلاً، وستترتب عليه نتائج سياسية واجتماعية تؤثر في حاضر تركيا ومستقبلها، بمعنى أن فوزهم في الانتخابات سيفضي إلى إرهاصات وتوترات في الشارع التركي، وستشكك المعارضة بنتائجها، وإن خسروها فسيشكل ذلك صدمة قوية، سيصعب استيعابهم لها وقبولهم بها، لأن فوز أكرم إمام أوغلو مرشح تحالف المعارضة برئاسة بلدية إسطنبول سيعطيه دفعة قوية للوصول إلى رئاسة حزب الشعب الجمهوري، وربما للوصول أيضاً إلى رئاسة الجمهورية التركية، ما يعني أنه سيشكل تهديداً للرئيس أردوغان في الانتخابات الرئاسية المزمعة في عام 2023.
ويبدو أن قادة حزب العدالة والتنمية (الحاكم) قرّروا تحمّل الثمن السياسي لإعادة انتخابات إسطنبول، ولم يقرأوا جوانب (وأسباب) التغير في الخريطة السياسية التركية، ويكمن بعضها في ميدان السياسة، وبعضها الآخر في الاقتصاد والوضع المعيشي، إذ تغيرت قيادة حزب العدالة والتنمية كثيراً خلال السنوات السابقة، حيث أبعدت قيادات تاريخية عن المشهد، وخصوصا التي ساهمت في تأسيس الحزب، وبرزت قيادات سياسية جديدة، أصابها بعض الترهل والاطمئان إلى الإنجازات التي حققها الحزب في المراحل الأولى من وصوله إلى سدة الحكم في تركيا، إضافة إلى أن بعض قادة الحزب باتوا يمنّون النفس بحصول تغييرات إيجابية على مختلف الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وخصوصا في الأوضاع المعيشية التي تدهورت كثيراً، خلال السنوات القليلة الماضية، بعد التراجع الاقتصادي، وتدهور قيمة الليرة التركية، وارتفاع نسبة التضخم وزيادة نسبة البطالة، سيما بين أوساط الشباب. ولذلك كان الأجدى بهم العمل من أجل تحديد أوجه التقصير وبذل الجهود من أجل تلافيها، وإصلاح مواضع الخلل، خصوصا أن مرحلة النهوض الاقتصادي الكبير التي بدأت منذ عام 2002، مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، قد انتهت، فالبحبوحة الاقتصادية التي تمتعت بها فئات من الفقراء والطبقة الوسطى، وخصوصا سكان المدن، قد ولّت مع ارتفاع تكاليف الحياة والهزات التي ضربت الاقتصاد التركي، إلى جانب حملات الاعتقال والملاحقة الواسعة التي جرت بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في منتصف يوليو/ تموز 2016، والتضييق على المعارضة، وسوى ذلك.
إذاً، ستكون إسطنبول وحدها على موعد انتخابي تاريخي، ستؤثر نتيجته في مستقبل تركيا، وفي بيتها الداخلي الذي أصابه غبار كثيف، جرّاء الانقسام والاستقطاب السياسي والاجتماعي الذي يرتفع منسوبه باضطراد مع كل استحقاق انتخابي فيها.
5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".