يحبس التونسيون، وأولهم الحكومة، أنفاسهم، بانتظار القرار النهائي للاتحاد العام التونسي للشغل، بشأن الإضراب العام الذي أعلنه ليوم غد الخميس. وتوالت الاجتماعات بين أعضاء من الحكومة والاتحاد لبحث مقترحات جديدة تلغي الإضراب، وكذلك بين الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، والأمين العام للاتحاد، حسين العباسي، إذ عقدا اجتماعين متتاليين في يومين لبحث هذه الأزمة. وغادر العباسي القصر الرئاسي، مشيراً إلى استمرار الحوار، ما حمل آمالاً جديدة بإمكانية التوصل إلى حل. وشهدت مناسبة إحياء ذكرى المناضل النقابي وأحد مؤسسي الاتحاد، فرحات حشاد، مشاركة لكل الأطراف، فيما برزت حالة من الانسجام بين رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، وبعض وزرائه، وقيادات من الاتحاد، ما فهم منه أيضاً بأنه بداية لتخفيف حالة الاحتقان التي سببتها الخلافات بين الطرفين منذ أسابيع. وينتظر الجميع اليوم، الأربعاء، خبراً سعيداً ينهي الإضراب، والتوصل إلى حل حول مسألة تجميد الزيادات في الأجور، التي يعتبرها العباسي مسألة مبدئية، باعتبار أن الحكومة التونسية، بغض النظر عن اسم رئيسها، وقعت اتفاقاً مع النقابة ولا يمكنها التراجع عنه، لأنه يشكل تهديداً مباشراً لمبدأ التفاوض والاتفاق، وينسف أسس الاستقرار الاجتماعي.
ويتوقع كثر، ويأملون، أن يتوصل الطرفان إلى اتفاق في اللحظات الأخيرة، كما جرت العادة في تونس، لأسباب كثيرة، إذ تدرك الحكومة، السعيدة بنجاح مؤتمر الاستثمار، أن عليها مواصلة نفس النسق الإيجابي الذي سلكته في الأيام الاخيرة، بعد تعثر بداياتها. ومن المتوقع أن يقرر الاتحاد قراره النهائي بشأن الإضراب، في اجتماع لهيئته الإدارية، يُنتظر أن يكون ساخناً وطويلاً. وربما يُعلن خلال ساعات عن الخبر السعيد الذي تنتظره الحكومة وكثير من التونسيين بفارغ الصبر، لأسباب عديدة، أولها أنه لا يمكن للحكومة المجازفة بهذا الإضراب، لأنه لا يعني نهاية الطريق، بل بدايته، وإذا ما دخلت في مواجهة مع الاتحاد فإن هذا الإضراب سيكون الأول، لكنه لن يكون الأخير.
وتعرف حكومة الشاهد أنها، في المقابل، ستثبت أنها متشبثة بالاستقرار الاجتماعي، وبمبدأ الحوار مع الأطراف الاجتماعية، وأنها مستعدة للتضحية في سبيل ذلك، وربما تغنم منه مساحة زمنية مستقرة اجتماعياً، وتوجه رسالة إيجابية إلى الخارج وطمأنة للمستثمرين، ولا تفتح فيها صراعات متعددة في الوقت ذاته، بالنظر إلى خلافها مع المحامين والصيادلة والمدرسين وعدد من المهن الحرة. وتدرك الحكومات التونسية أنها لا يمكن أن تواجه غضب المنظمة النقابية، التي بقيت الرقم الصعب في كل المعادلات في البلد، واستمرت قوية برغم تتالي الأنظمة والحكومات، وانتصرت في جميع معاركها التاريخية، وساهمت بشكل كبير في الثورة، وقادت الحوار الوطني، وخرجت منتصرة في صراعها مع الترويكا، وأسقطت عدة حكومات، في مواجهات يتذكرها التونسيون جيداً. وبدا حسين العباسي، في كلمة ألقاها لمناسبة الذكرى 64 لاغتيال الزعيم النقابي، فرحات حشاد، الأحد الماضي، غاضباً جداً، إذ اعتبر أن ''هناك إرادة للالتفاف على الثورة، واستعادة قوة الجذب للخلف أنفاسها''، معتبراً أن تونس تعيش لحظات فارقة في المسار الديمقراطي، متهماً الحكومة بالتنكر لوعودها. وهاجم بعض نواب حزب (نداء تونس) الذين يسعون إلى "شيطنة الاتحاد والتطاول على المناضلين"، واصفا إياهم بأنهم "مجرّد أصوات ناعقة تسعى إلى ضرب استقلالية الاتحاد". واستغرب ما وصفه بالتهاون المريب والتقاعس من الدّولة لاسترجاع ديونها المخلّدة بذمّة أصحاب الثروات الطائلة، والتي تعدّ بآلاف المليارات، والتردّد المشبوه في فتح ملفّ الإصلاح الجبائي، ومقاومة الفساد، وتقديم المعالجة الصحيحة لمعضلة الاقتصاد غير المنظّم في اتجاه إدماجه وتعهد العاملين فيه بالحماية والتأطير وإعادة التأهيل.
وشكل هذا الخطاب رسالة واضحة إلى الحكومة والرئاسة، إذ حملت تصعيداً واضحاً من الاتحاد وتعبيراً عن جهوزيته لتنفيذ تهديده بالإضراب، وشنّ حركات احتجاجية لا قوة للحكومة، في وضعها الراهن، على مجابهتها. ولن تنتهي مشاكل حكومة الشاهد بمجرد إلغاء هذا الإضراب، إذ يبدو أن معركة كبيرة أخرى تنتظرها بين وزير التربية، ناجي جلّول، ونقابات المدرسين، في الابتدائي والثانوي، إذ أعلنت النقابتان، في بيان مشترك، أول من أمس، جدولاً زمنياً للإضرابات الاقليمية الدورية للمعلمين والأساتذة، تنطلق الخميس، وتتواصل على مدى أسبوعين تقريباً. وأشار البيان إلى أنه تم الاتفاق على "مواصلة المشاورات المتعلقة بمختلف المحطات النضالية المقبلة، تجسيداً لوحدة القطاعين ووحدة المربيات والمربين في دفاعهم المشروع عن كرامتهم ومكاسبهم، وعن مصلحة التلاميذ والمنظومة التربوية".
ويشكل هذا البيان حلقة جديدة من حلقات الصراع مع الوزير، يبدو أنها تسعى إلى الإطاحة به شخصياً، بعد سلسلة من الخلافات تواصلت على مدى أكثر من عام، وسببت حالة من الانزعاج الكبير في صفوف أولياء الطلاب. ويبدو هذا الأمر محرجاً جداً للحكومة والسبسي، إذ يُعتبر جلّول أكثر الوزراء شعبية في تونس، وكان إلى جانب الرئيس في خلافه مع رئيس الحكومة السابق، الحبيب الصيد، وسيكون التخلي عنه في هذا الصراع رسالة سلبية جداً لكل الوزراء الباقين، لكن التجارب السابقة أثبتت أن الاتحاد قادر على إقصاء أي وزير، إذا كان هناك إجماع على ذلك. وفيما يرجح كثيرون أن هذا الخلاف مردّه حسابات نقابية صرف استعداداً للمؤتمر المقبل، يشير آخرون إلى أن جلّول كان أكثر الوزراء إزعاجاً للنقابة، وأدار صراعه مع النقابات بنجاح نسبي، وسبّب لها حرجاً أمام الأهالي أكثر من مرة، ما يجعل منه عقبة ينبغي إزالتها، على الرغم من أنه ينتمي إلى العائلة اليسارية فكرياً، المقربة من الاتحاد.