إضراب المعلمين الفلسطينيين... نموذج لأزمات السلطة

12 مارس 2016
يتمسك المعلمون بضرورة تحقيق مطالبهم (عصام ريماوي/الأناضول)
+ الخط -
لم يعد إضراب المعلمين الفلسطينيين، والذي يقترب من إنهاء شهره الأول، يُنظر له على أنه إضراب مطلبي نقابي محدود بقطاع معين، بل كشفت ارتدادات الإضراب عمق أزمة النظام السياسي الفلسطيني، التي لم يعد ممكناً ترحيل حلها أو التظاهر بأنها غير موجودة، في ظل ارتفاع أصوات قيادية وازنة تدعو لإعادة صياغة النظام السياسي الفلسطيني، واستبدال وظائف السلطة الفلسطينية الحالية. ويبدو أن استشعار "الخطر" لا يقتصر على الفلسطينيين، إذ شهدت أروقة الضفة الغربية لقاءات أميركية أخيراً، بدا وكأنها تهدف إلى استباق أي انفجار محتمل للنظام الفلسطيني المتمثل بالسلطة الوطنية.
كشف إضراب المعلمين عن "عصب" النظام السياسي المهترئ، إذ انغمست جميع المستويات السياسية في الأزمة بدون جدوى، من أعلى الهرم وهو الرئيس محمود عباس الذي ناشد المعلمين الرجوع إلى مدارسهم، مروراً بالحكومة والأجهزة الأمنية وحتى الفصائل التي انبرت لإصدار البيانات ما بين "مشيطن" للمعلمين و"مساند" لهم في مطالبهم، وليس ختاماً بمجموعة من المسلحين الذين عرّفوا عن أنفسهم بأنهم "صقور فتح" وقادة "كتائب شهداء الأقصى" الذين هددوا المضربين بـ"الحوار معهم بالرصاص"، على الرغم من أن مطالب المعلمين تقتصر على تحسين ظروفهم المعيشية وزيادة رواتبهم واحتساب العلاوات الوظيفية والإدارية لهم. وبدت السلطة أمام الإضراب النقابي، عاجزة عن تخطي الأدوات العربية التقليدية في مواجهة أي حراك، فلجأت إلى العنف أولاً، وإن عبر أطر غير رسمية، ثم إلى اتهام الإضراب بـ"التسييس"، مروراً بمحاولات اختراق الإطار النقابي التعليمي للالتفاف على المطالب الـ13 المرفوعة، وصولاً إلى تصوير المضربين والمعتصمين كباحثين عن مصالح فردية على حساب الكلمة السحرية "المصلحة الوطنية".

اقرأ أيضاً: مدرّسو فلسطين يطالبون بحقوقهم في الشارع

يرى مراقبون للأزمة الحالية أن استمرارها لأسبوعين مقبلين سيؤدي للإطاحة بحكومة الوفاق الوطني التي يقودها رئيس الوزراء رامي الحمد الله، ما يعني أن جرس إنذار كبيرا سيدّوي حينها، ومن الممكن ألا يكون تداركه متاحاً.

من جهتها، تعتبر أوساط سياسية أن أزمة التعامل مع إضراب المعلمين ستعيد كشف جميع أزمات النظام السياسي الفلسطيني، وستكون فاتحة إضرابات لقطاعات مهنية أخرى، في الوقت الذي تعيش فيه القيادة الفلسطينية أسوأ أوقاتها وأزماتها السياسية داخلياً مع المجتمع الفلسطيني من جهة، ومع الاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى. وقد تراجعت شعبية السلطة لأدنى مستوياتها بسبب طريقة تعاطيها مع الإضراب. وضع تؤكده نتائج استطلاعين للرأي أجراهما مركز العالم العربي للبحوث والتنمية "أوراد" حول إضراب المعلمين. الأول يستهدف المواطنين والآخر النخب القيادية وغالبيتها من حركة "فتح". وقد كشف الاستطلاعان عن تراجع حاد في التقويم الإيجابي للرئيس محمود عباس في التعاطي مع إضراب المعلمين. وأظهر استطلاع النخب أنهم صوتوا بواقع 51 في المئة أن أداء عباس سلبي، فيما اتفق 49 في المئة من المواطنين على ذات النتيجة، في مقابل 5 في المئة من النخب و6 في المئة من المواطنين قالت إن أداء الرئيس الفلسطيني كان إيجابياً.
وأشار رئيس مركز "أوراد"، نادر سعيد، خلال لقاء عقد في مقر المركز لعدد من الصحافيين يوم الثلاثاء الماضي، إلى أن "التقويم الإيجابي لأداء عباس انخفض من 35 في المئة قبل شهور عدة إلى 16 في المئة بين الجمهور و11 في المئة من النخب، في استطلاع الرأي الذي أعده المركز في الأسبوع الأول من شهر مارس/آذار الحالي". وإلى جانب عباس، نال رئيس الوزارء رامي الحمد لله أدنى تقويم إيجابي، إذ يرى 60 في المئة من النخب أن أداءه سلبي، فيما يرى 54 في المئة من الجمهور ذات النتيجة، مقابل نسبة 3 في المئة من النخب و7 في المئة من الجمهور ترى أن أداء رئيس الوزراء كان إيجابياً.

وكشف إضراب المعلمين أيضاً عن عجز كامل للنظام السياسي الفلسطيني عن التعاطي مع الأزمة وحلها وفق المرجعيات النقابية. فقد عمدت الحكومة إلى استخدام الأجهزة الأمنية في اعتقال المعلمين، ووضع حواجز أمنية على مداخل المدن الفلسطينية لمنعهم من الوصول إلى نقاط التجمع للاعتصام، مروراً بإشهار قانون الطوارئ الذي يمنع التجمع إلا بإذن خطي من المحافظ. ولعل الأخطر أن مستويات قيادية عليا فلسطينية كشفت "أنها لا تعلم من هو مصدر القرارات لكل هذه الإجراءات، هل هي الحكومة أم الرئاسة أم الأجهزة الأمنية".

وتلقي أوساط فتحاوية رفيعة اللوم على حكومة رامي الحمد الله، الذي بدلاً من حل إضراب المعلمين في أيامه الأولى، عمد إلى سلسلة إجراءات قاسية أججت من غضب المعلمين وتعاطف الشارع الفلسطيني معهم، الأمر الذي يرتد بالنقد اللاذع على حركة "فتح" والأجهزة الأمنية بالمقام الأول. وقد أشار استطلاع مركز "أوراد" إلى أن 67 في المئة من النخب و54 في المئة من الجمهور يرون أن تعامل الأمن مع إضراب المعلمين كان سلبياً، مقابل 2 في المئة من النخب و8 في المئة من الجمهور يعتبرون أن الأداء إيجابي. كما ترافقت هذه النظرة لدور الأمن مع ارتفاع الانتقادات، التي عادة ما كانت خافتة، لنصيب الأمن الكبير من حصة الموازنة على حساب قطاعات حيوية كبيرة أهمها التعليم والصحة والزراعة.

ويرى عضو اللجنة المركزية، جبريل الرجوب، في تصريحات صحافية خلال لقاء مركز "أوراد" أن هناك "ضرورة ملحة لإعادة النظر في صياغة النظام السياسي الفلسطيني، لأن الصيغة الحالية لا تستجيب لطموحات المواطن ولا تؤدي الدور المطلوب منها". وينبّه الرجوب إلى أنه "يجب عدم الاستهانة بإضراب المعلمين، لأنه يعبّر عن مأزق كبير وصلنا له، وبدل أن يكون إضرابهم مقدمة لتفتيت المجتمع من الداخل، يجب أن يكون مقدمة لإعادة صياغة فعل وطني فلسطيني يستند إلى استراتيجية، وهذه الاستراتيجية تعبر عن طموحنا وتنسجم مع إمكاناتنا وتحاصر الأجندات الخارجية".

ويطالب المعلمون بـ13 مطلباً، أبرزها: استقالة الأمانة العامة لاتحاد المعلمين الفلسطينيين، وأمناء سر الفروع فوراً، وتشكيل لجنة للانتخابات ضمن هيئات حقوقية، وإجراء انتخابات وفق جدول زمني في موعد أقصاه نهاية الشهر الجاري، وتعديل النظام الأساسي للاتحاد، بما يتيح لكل معلم حق الترشح والانتخاب، وأن يكون المعلمون من أعضائه، ولا يكون محسوبًا على ديوان الموظفين العام. كما يطالبون بصرف علاوة طبيعة العمل لهم بنسب محددة بحسب الدرجة العلمية، بدءًا من (50 في المائة لحملة الدبلوم، وحتى 65 في المائة لحملة الدكتوراه)، وجدولة الديون المتبقية على الحكومة حتى أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وتعديل قانون التقاعد بما يحفظ كرامة المعلم، ومطالب أخرى، كما أكدوا شمول الاتفاق كل موظفي التربية، بغض النظر عن مسمياتهم الوظيفية.

ونُسبت تصرفات عديدة للسلطة الفلسطينية في تعاطيها مع المعلمين المضربين غير معروف مصدرها أو صاحب القرار فيها، مثل قرار اعتقال المعلمين، أو حجز بطاقاتهم الشخصية، ووضع حواجز على مداخل المدن، وصولاً إلى ظهور مسلحين عرّفوا عن أنفسهم بـ"صقور فتح" و"كتائب شهداء الأقصى" التي تم حلها باتفاق فلسطيني إسرائيلي في العام 2007 بشكل رسمي. وقد أعلن هؤلاء المسلحون، في خطاب كتب بطريقة غير معهودة لدى "شهداء الأقصى"، أنهم "سيتكفلون بالعملاء" وسيحاورونهم "بالرصاص" في إشارة إلى إضراب المعلمين. وخاطبوا الرئيس ورئيس وزرائه قائلين لهما "سيرا على بركة الله ... نحن خلفكما". وبعد أقل من 24 ساعة على الخطاب، تم إطلاق النار على بيت أحد المعلمين الناشطين في الإضراب المطلبي في الخليل، الأمر الذي اعتبرته بعض الأوساط الحقوقية الفلسطينية بداية لمرحلة "فلتان أمني" وتحريض دموي ضد المعلمين تقوده المستويات الرسمية، وتغض الأجهزة الأمنية الطرف عنه.

في غضون ذلك، تنشط وراء الكواليس لقاءات أميركية رفيعة المستوى بين القيادات الشابة وممثلين عن القطاع الخاص، على أمل الحصول على تشخيص دقيق للوضع على الأرض، ومعرفة أين يتجه الشارع الفلسطيني، وكيف يرى القيادة في ظل الأزمات الداخلية والسياسية المتعاقبة.
وفي السياق، اجتمعت ممثلة الولايات المتحدة الأميركية لدى الأمم المتحدة، سامانثا باور، قبل نحو أسبوعين، بعدد من القيادات الفلسطينية الشابة من الصفين الثاني والثالث، وقادة رأي، وممثلين عن القطاع الخاص لمعرفة أين تتجه الأمور ميدانياً وسياسياً على الصعيد الفلسطيني، في محاولة لرصد صورة متكاملة عن الوضع الفلسطيني بعيداً عن خطاب ورواية المستوى الرسمي الفلسطيني.
لكن مصدراً مقرباً من الرئاسة الفلسطينية يؤكد لـ"العربي الجديد" أنّ "هناك حاجة ماسة الآن لتفكيك الأزمات الداخلية، وتحديداً إضراب المعلمين، الذي لم يكن متوقعاً أن يصل إلى هذه المرحلة، ولا سيما أن القيادة منخرطة في حديث ولقاءات مع المستوى الإسرائيلي بشأن تحديد العلاقة وقطع التنسيق الأمني، وتنتظر جواباً مصيرياً خلال المرحلة المقبلة من الجانب الإسرائيلي".

لكن بات من الواضح أنه في ظل الأزمات المتلاحقة التي تم ترحيلها على مدار سنوات وعدم تسويتها، فضلاً عن شكوى مواطنيها من عدم وجود عدالة اجتماعية في توزيع الرواتب وبروز طبقة موظفين من ذوي الرواتب المرتفعة على حساب شريحة كبيرة من الموظفين برواتب متدنية، وارتفاع نسب البطالة والفقر، فإن العمل على "استراتيجية صمود" كما يقول عبد القادر، أو "العمل على تغيير وظيفة السلطة من سلطة خدمات وقبول الأمر الواقع إلى سلطة تمثل رافعة للمشروع الوطني لإنهاء الاحتلال"، كما يطمح عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" محمد أشتية، أمر بعيد المنال وربما غير واقعي حالياً.

اقرأ أيضاً: ضرب الإضراب
المساهمون