إضاءات نحوية: "ناهيك من"

16 ابريل 2020
+ الخط -
قبل سنوات، كتبت مادة تلفزيونية عن بعض الشعراء، وخلال جمع المادة صِدْتُ بعض الفوائد والفرائد، لا كرامة لي فيها سوى تجميعها من مصادر شتى، ومن بين هذه الفوائد حديثهم عن "ناهيك.. وما بعدها".

في عجالة، يَكثر في الكتابة الصحافية والأدبية - فضلًا عن الأحاديث اليومية - قولنا "ناهيك عن"، فيتبع حرف الجر عن الكلمة في الغالب الأعم. في كتب العربية يختلف الأمر، يقول العلماء إن حرف الجر الذي يتبع ناهيك يحتاج ضبطًا لنقلها من الصحيح إلى الفصيح، وقبل تفصيل ذلك يتعين علينا التطواف في رحاب "ناهيك".

كلمة ناهيك تتكون من مقطعين؛ ناهي، وهو اسم فاعل من الفعل نَهِيَ بمعنى اكتفى، والكاف للخطاب، ومعناها حسبُك وكفاك، مأخوذة من النهي، وهو ضد الأمر، وفي مختار الصحاح "نهاه عن كذا، ينهاه نهيًا، وانتهى عنه وتناهى، أي كفَّ"، ويقال إنه لأمُورٌ بالمعروفِ نَهُوٌ عن المنكر (على وزن فعول)، والنُّهْيَةُ - بضمِّ النون - واحدة النُّهى، وهي العقول، سميت بذلك لأنها تنهى عن القبيح، يقول تعالى في محكم التنزيل "إن في ذلك لآياتٍ لأولي النُّهى".

والإنهاء في اللغة الإبلاغ، تقول أنهى إليه الخبرَ فانتهى وتناهى، أي بلغ، والنِّهاية الغاية، يقال بلغ نهاية الأمر أي غايته. نقل صاحب تاج العروس، وكذلك فعل صاحب حاشية الطيبي على الكشاف، عن الجوهري قوله "ناهيك ونهاك ونَهْيُك أي حسبُك، وتأويله أنَّه بِجِدِّه وغَنَائِهِ ينهاك عن تطلُّبِ غيره"، ويقال نُهتُ بالشيء ونوّهتُ به إذا رفعتُ ذِكره، ونفهم من ذلك أن ناهيك تستعمل للمدح، ومن ذلك إنشاد الخليل بن أحمد الفراهيدي (هو الشيخُ الذي حَدَّثْتَ عنه/ نهاكَ الشيخُ مكرمةً وفخرا).


الفرق بين ناهيك وحسبُك

عرفنا أن ناهيك اسم فاعل، ومن ثَمَّ فإنها تُذكَّر وتؤنَّث وتُثنى وتُجمع؛ فتقول: هذا رجلٌ ناهيك من رجلٍ، وهذه امرأة ناهيتُكَ من امرأة. أما حسبك فهي مصدر، والمصدر لا يثنّى ولا يُجمع إلا قليلًا، وراجع خبر أبي الطيب والآمدي في التَّحيات إن شئت.

يقول ابن السرَّاج في "الأصول في النَّحو"، إن ناهيك بمعنى حسبُك وأيما، لكنَّ الأخيرتين تُنصبان على الحال، ويقول ابن فارس في "متخيَّر الألفاظ" إن ناهيك به وجازيك به لهما المعنى ذاته، في حين نجد عند ابن قتيبة في "أدب الكاتب" قوله: "يُقال هذا رجلٌ شَرْعَكَ من رجلٍ أي ناهيك به، والقومُ شَرَعٌ - بفتح الراء - أي سواء".

ويأتي حرف الجر الزائد (الباء) بعد ناهيك، لكنه يسبق حسبك "بحسبك في القومِ أن يعلموا/ بأنك فيهم غنيُّ مُضر"، كذلك فإن الباء تُزَادُ اطرادًا في الخبر المنفي (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ)، وتُزادُ سماعًا في فاعل كفى (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)، وفي الأفعال المتعدية مثل مدَّ (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ)، وأراد (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم)، علم، جهل، سمع، أحسَّ وألقى، وللتوسُّع يُنظر في كتاب "الموجز في قواعد اللغة العربية" لسعيد الأفغاني.

إعرابها:

أورد الدَّماميني في كتابه "تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد"، تفصيلًا ماتعًا في إعراب ناهيك، وفيه أنّ إعراب قولك "ناهيك بالله" مجمله: ناهيك خبرٌ مقدّمٌ مرفوعٌ بضمّةٍ مقدَّرة، منع من ظهورها الثِّقل، وناهي مضاف، والكاف ضمير متصل مبني على الفتح في محل جر مضاف إليه، والباء حرف جرٍّ زائد، ولفظُ الجلالة مبتدأ مؤخّر مرفوع بضمَّة مقدّرة، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجرّ الزائد، ومعنى الجملة: اللهُ ناهيكَ عن طلب غيره؛ لأنه كافيك.

أما في المعرفة كقولك "هذا عبد الله نَاهِيَكَ من رجل"، فتنصب ناهيك على الحال.
حرف الجر بعدها:
أوردت المعاجم التعبير "ناهيك من" وكذلك "ناهيك بـ"، ولم يأتِ في كتب القدامى تعبير "ناهيك عن"، وقال بعض العلماء المحدثين إن ناهيك من فصيحةٌ مستعملة، وبَلْهَ فصيحةٌ مهملة، وناهيك عن صحيحة، في حين قال أحمد مختار عمر في معجم الصواب اللغوي "ناهيك عن" مرفوضةٌ عند الأكثرين.

وكان بشار بن برد العقيلي معجبًا بأبي حذيفة واصل بن عطاء؛ فلما خطب واصل خطبته البتراء وتجنّب فيها الراء، قال بشار يمدحه (تكلَّفوا القول والأقوام قد حفلوا/حبَّروا خُطبًا ناهيك من خُطب/ فقامَ مرتَجلًا تغلي قريحته/ كمِرجَلِ القَيْنِ لمَّا حُفَّ بالحَطَب/ وجانَبَ الرَّاء لم يشعُر به أحدٌ/قبل التصفُّحِ والإغراقِ في الطلب)، ثم انقلب بشار على واصل، وصار بينهما ما صنع الحداد، حتَّى أن ابن عطاء أغرى أتباعه بقتل بشار.

ونجد ناهيك من حاضرة بقوةٍ في شعر ابن الرومي، يقول في أحدهم (في كفِّه قلمٌ ناهيكَ من قلمٍ/ نُبْلًا وناهيكَ من كفٍّ بها اتشحا/ يمحو ويُثْبِتُ أرزاقَ العباد به/ فما المقاديرُ إلا ما محا ووحى).

وفي كتابه "الزاهر"، يقول أبو بكر الأنباري "قولهم ناهيك بفلانٍ معناه كافيك به، من قولهم نَهِيَ الرجل من اللحم وأنهى: إذا اكتفى منه وشبع"، وفي المصباح المنير للفيومي "ناهيك بزيدٍ فارسًا: كلمة تعجُّبٍ واستعظام"، هنا زِيدت الباء كزيادتها بعد إذا الفُجائية وبعد كيف.

ونقل الزبيدي في التاج عن الفرَّاء قوله: "دخلت الباء - في قوله تعالى (وكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا) - للمبالغة في المدح، وكذلك قولهم ناهيك بأخينا وحسبُك بصديقنا، أدخلوا الباء لهذا المعنى، ولو أسقطت الباء لقلتَ كفى اللهُ شهيدًا. أما أبو بكر الأنباري، فعلَّق على نصب (شهيدًا) بقوله "انتصاب قوله شهيدًا على الحال من الله، أو على القطع، ويجوز أن يكون منصوبًا على التفسير (معناه كفى بالله من الشاهدين)؛ فيجري في المنصوبات مجرى الدِّرهم في قوله (عندي عشرون درهمًا).

يستعمل بعضهم (عن) بعد ناهيك، والأنسب لك - دعك منهم - أن تقول فضلًا عن وزيادة على؛ ليكون كلامك فصيحًا مستعملًا ولتُصيبَ في المعنى كُلًى ومفاصل، ولا تحطب على نفسك النكراء أو المهمل من المعاني والألفاظ.