إضاءات في العلاقات الدولية

27 ديسمبر 2018
+ الخط -
أخذت السياسة الحيز الأكبر من اهتمام المواطن العربي، منذ نشأة الدولة العربية الحديثة، بسبب الأحداث العديدة والمهولة التي شهدها الشرق الأوسط، فمنذ الحرب العالمية الأولى والانتدابين البريطاني والفرنسي وإلى الحرب العراقية الإيرانية ثم الربيع العربي، كانت السياسة الشغل الشاغل للشارع العربي، لأنها تؤثر مباشرة على حياة المواطن الذي قلما شهد استقرارا ونموا مضطردين منذ نحو قرن، لكن الاهتمام بالسياسة لا يؤدي بالضرورة إلى فهم السياسة، فالتحليل السياسي في العالم العربي تشوبه العاطفة، لا التحليل المجرد من الانحيازات الفكرية، وتطغى عليه أيديولوجيا الأحزاب السياسية، لا البراغماتية التي تستمد الاستنتاجات من الواقع. ولذلك عادة ما يبدأ النقاش بنبذ الرأي الآخر، وينتهي بإعادة تدوير نظرية المؤامرة. ولكي يتسنّى للأمة العربية النهوض، ونفض غبار الرجعية، من الضروري إضفاء نظرة أكثر واقعية للسياسة الدولية، والتي تأسست على مرحلة العمل نحو تطوير الدولة والمواطن من الخليج إلى المحيط. 
ينسب مؤرخون عديدون نشأة الدولة القومية بعد صلح وستفاليا في 1648 ميلادية، وأسست تلك الحقبة تنافساتٍ مستعرةً ما بين الدول الأوروبية في قارتهم وخارجها لمصالح تتوافق، في بعض الأحيان، وتتقاطع في أغلبها. الدولة الحديثة في العالم العربي في المقابل حديثة العهد، مع بعض الاستثناءات، معظم أنظمتها دكتاتورية، أي أن مهمتها الأساسية الحفاظ على الحكم، بدل تغليب مصلحة الشعب، يضاف إلى ذلك أن مجتمعات عربية عديدة منقسمة على نفسها بين طوائف أو أيديولوجيات مختلفة. ولذلك تتشوش نظرة المواطن العربي للسياسات الخارجية ما بين سياسات الدول الغربية ذات الواقعية الحادة وقصر نظر السياسات الخارجية للدول العربية.
 يتوقع المواطن العربي من دول العالم، خصوصا الغربية، نهج سياسةٍ متوازنةٍ ومشوبةٍ ببعض الإنسانية، إلا أن السياسة الخارجية للدول الراسخة مبنية على المصالح، لا الأخلاقيات.
خير مثال على ذلك التمايز ما بين السياسات الغربية والعربية هو الحرب العراقية الإيرانية، حيث دعمت الدول العظمى المتحاربين في السنوات الثماني الطاحنة، من دون الأخذ في الاعتبار الخسائر البشرية، أي من دون الالتفات إلى حقوق الإنسان والشرعية، إنما كان الدعم مبنيا على المصالح الجيوسياسية أو ربحية شركات الأسلحة. في هذا الإطار، اختزل وزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، الموقف الأميركي من تلك الحرب، حينما قال إن من المؤسف أنه لا يمكن للطرفين الخسارة في هذه الحرب. بمعنى آخر، لدى النظام السياسي الغربي وجهان، أولهما في السياسة الداخلية، حيث احترام المواطن والعمل بمبادئ عصر النهضة، وفي السياسات الخارجية لا تلتزم بالضرورة بهذه المبادئ، لا بل تهمشها أو تناقضها من أجل مصلحة الدولة.
من المفاهيم المغلوطة في العلاقات الدولية أيضا أهمية المجتمع الدولي. يتساءل المواطن العربي دائما وأبدا بعد حدوث كارثة إنسانية عن أسباب غياب المجتمع الدولي، أو حتى تواطؤ المجتمع الدولي في ما يخص القضايا العربية المشروعة. والحقيقة أنه لا يوجد فعليا مجتمع دولي بالمعنى الحرفي للكلمة، فالعالم مقسم إلى دول عديدة، لديها مجتمعات متنوعة، تستجيب بعض الأحيان إلى عدد من القضايا الإنسانية. ويعتمد رد فعل الحكومات على عدة عوامل، كالاستجابة للضغط الشعبي، هذا إن كانت الأنظمة ديمقراطية، لفعل شيء من منطلق العدالة. ولكن ليس من الضروري أن تؤثر هذه التعبئة على قرار الحكومة. وخير مثال على ذلك الاحتلال الأميركي للعراق، على الرغم من رفض أميركيين عديدين لهذا الغزو، والخرق الصارخ للقانون الدولي. لم يستطع الزخم الشعبي المعارض للحرب منع الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش الابن، من شن حملته على العراق، كما لم يستطع البريطانيون منع رئيس الوزراء السابق، توني بلير، من الانجرار خلف الإدارة الأميركية. هذا في إطار مثال واحد لمجتمعين غربيين، لهم الحق في التصويت والتأثير في سياسة حكومتيهما، فما بالك بدول أخرى مثل روسيا في عهد الشيوعية، أو حتى في عهد الرئيس الحالي، فلاديمير بوتين، والتي لا تأبه لأساسيات حقبة التنوير، كالليبرالية والديمقراطية والحرية.

أخيرا، بيئة العلاقات الدولية مشوبة بعدم الأمان والثقة، بسبب غياب سلطة مركزية تفرض القانون والعمل بالمواثيق والاتفاقيات. ولذلك الواقع السياسي للدول هو انعكاس لموازين القوى على الأرض، ثم تأتي الشرعية. ويذكر أنه بعد الكارثة البشرية التي حلت نتاج الحرب العالمية الأولى في المسرح الأوروبي، تم إنشاء عصبة الأمم لتفادي حدوث كارثة مشابهة. لكن، وبعد سنوات قليلة، لم تستطع هذه المنظمة ردع القوى الفاشية، كإيطاليا، من احتلال دول أعضاء في عصبة الأمم، كإثيوبيا، أو كما كانت تسمى حينذاك الحبشة. لا يختلف واقعنا الراهن كثيرا، ما عدا دخول العالم العصر النووي، وبات أحادي القطبية تحت مظلة الولايات المتحدة. وفي الشرق الأوسط خير دليل على ترجيح كفة القوة على شرعية القضية الفلسطينية، فمنذ عقود خلت، لم يلق الطرف الفلسطيني في صراعه مع إسرائيل حقوقه المشروعة، على الرغم من قرارات الأمم المتحدة في هذا الشأن. بالعكس من ذلك، قضمت إسرائيل أراض عربية أخرى، على مرأى دول العالم، من دون أي رادع أخلاقي أو شرعي.
يقول الفيلسوف الصيني صن تسو: اعْرِف نفسك واعرف عدوك، ولن تخسر مائة معركة.. لكن ما يجري في العالم العربي هو العكس، وهو المنفتح على مصراعيه، حيث الدولة منهارة أو ضعيفة أو مبنية على الشخصنة. يعد هذا الجزء من العالم، في حسابات الدول الأخرى، حلبة للصراعات والصفقات، ولا تملك الشعوب العربية مفاتيح مصيرها، لأن السياسة الخارجية ليست مبنيةً على أساس مصلحة الدولة، بجغرافيتها وشعبها ومستقبلها، إنما على مصلحة النظام الذي يأخذ في الاعتبار البقاء على كرسي الحكم. وبالتزامن، تتخبّط الشعوب العربية في تفسير واقعها.
دلالات
E55B42F8-832C-4506-A2E3-0C199F731750
E55B42F8-832C-4506-A2E3-0C199F731750
مصعب الآلوسي
مصعب الآلوسي