إصلاح ذات البين

28 فبراير 2019
دول عربية وصلت لمرحلة الأزمة في العلاقات مع شعوبها(Getty)
+ الخط -
هل وصلت الحكومات العربية، أو بعضها، إلى مرحلة اللاعودة، في قدرتها على تدبير شؤونها الداخلية؟ وهل أصبحت الحكومات في وطننا العربي مشغولةً بحل مشكلاتها بدلاً من أن توجّه همّها وجهدها إلى تحفيز الاقتصاد، ونشر العدالة، وتوفير قدرٍ من المناخ المحفّز للسعادة للشعب الذي تدير شؤونه؟
هذه الأسئلة وغيرها تثور من جديد ونحن نرى التظاهرات والاحتجاجات تعم الكثير من شوارع المدن، وحتى الأرياف، في دول عربية متعددة.

ما نراه في تونس، والجزائر، وموريتانيا، بدرجاتٍ متفاوتةٍ من الشدة والتكرار، وفي الأردن ولبنان، يوحي بأن الحكومات قد غرقت في بحر من الحيرة والتردّد، ولا تعرف ماذا تفعل، ما يزيد الناس غضباً وخوفاً من الحاضر، ومن المجهول القادم.
وحتى في الدول العربية التي لا تحصل فيها سوى تعبيرات عن الغضب بين الفينة والأخرى، فذلك لا يعني أن شعوبها أكثر سعادةً من غيرها، فما جرى في اليمن والعراق وسورية قد أنسى الناس مشاغل الدنيا، وأرجع طلباتهم إلى الحد الأدنى من البقاء والأمن.

وهنالك دول عربية منسية لا يتذكّرها أحد، مثل الصومال وجزر القمر. أما فلسطين فحكاية أخرى بحد ذاتها. ولذلك، صار لزاماً على دول عربية كثيرة وصلت إلى مرحلة الأزمة في العلاقات مع شعوبها، أو تلك السائرة إلى هنالك، على الرغم من ثرواتها، أن تسعى إلى حماية نفسها من شعوبها، بدلاً من أن تطلب الحماية من دولٍ أخرى مقابل أثمان باهظة.

ما يجري في السودان مأساة بحد ذاته، وكأن السودان الذي هزم القائد البريطاني هربرت كيشنر، بقيادة الإمام المهدي وصحبه، لم يكتب له أن ينعم بالراحة، فقد مرّ بعدة موجات من الجمهوريات التي دامت الواحدة منها بمعدل عقدين، وانتهت بالسودان إلى وضع أسوأ مما كان عليه. وحتى الحكومات المدنية المنتخبة في هذا البلد الكبير الواعد، لم تستطع أن تضع الاقتصاد السوداني على طريق النمو، وانتهت على يد العسكر الذين طال حكمهم، ولم يسهموا في تطوير هذا البلد العظيم.

وقد سمي السودان، في وقت من الأوقات، سلة العرب الغذائية. وكان الناس يتحدّثون عن وجود مليارات الدونمات أو الفدادين من الأرض الصالحة للزراعة. وجرت محاولاتٌ عدة عن طريق دول النفط وغيرها، وبتمويل ومساهمة من صناديق التنمية القُطرية والإقليمية في الوطن العربي. ولكنها فشلت في معظمها، وخصوصاً المشروعات الزراعية.
وبعد انفصال جنوب السودان، واحتدام الأزمة الأمنية في منطقة دارفور، والصراع مع مصر على منطقة حلايب، وتأزّم العلاقات بين دول الخليج، وجد السودان نفسه في وضعٍ جديد فلم يعد ينطبق عليه ما كان يقال عنه في الكتب المدرسية، ولا في التقارير الاقتصادية العربية، فقد صغر مساحة، وقلّت الهيبة، وتزايد الفقر.

وحتى أن الرئيس نفسه، عمر البشير، أمضى ردحاً من الزمان تحت التهديد بالاعتقال، بسبب قرار من محكمة الجرائم الدولية. وعانى السودان، في الوقت نفسه، من الحصار الاقتصادي، وتراجع سعر صرف الجنيه السوداني، حتى أصبح الدولار الواحد يساوي أكثر من 47 جنيهاً سودانياً.
ويعاني السودان أيضاً من تراجع كميات المياه فيه، حيث إن إدارة المياه ليست حسب ما يجب أن تكون عليه. وفي الوقت ذاته، تبيّن أن المخزون المائي لم يكن بالحجم الذي بُنيت عليه التوقعات. وهذا لا يعني أن السودان فقيرٌ بالمياه، ولكن ذلك يعني أن السودان، بوضعه المائي، اضطر للتنسيق مع إثيوبيا في مشروع سد النهضة، ما أغضب مصر.

أما الآن، فيبدو أن مصر قد توصلت إلى تفاهماتٍ مع كل من إثيوبيا والسودان، بحيث أصبح تزويد مصر والسودان بمياه النيل مستقراً، ولو لعقد على الأقل.
وإذا استطاعت مصر أن تصل إلى اتفاقٍ مع السودان، وأن تتحسّن علاقات البلدين، فإن هذا سيكون في صالح كليهما إلى حد بعيد، من حيث فرص العمل، والإنتاج الزراعي، وإيجاد الصناعات الغذائية، واستثمار الموارد الطبيعية، والتخفيف من آثار التضخم السكاني، وتكاليفه الباهظة على الاقتصاد المصري، وتعزيز قوة البلدين اقتصادياً وأمنياً.
أما في المشرق العربي، فإن التفاهم بين الأردن وفلسطين وسورية والعراق ولبنان هو المدخل الأساس لتحسين الفرص الاقتصادية في كل هذه الدول، وتقليل كلف إعادة الإعمار في العراق وسورية، وتحسين وسائل الاستفادة من الموارد المائية والطاقة فيها. 
ولعل ربطها مع بعضها بعضاً بمشاريع بنيوية استراتيجية ضخمة، مثل سكك الحديد، وأنابيب النفط والغاز، وإيجاد المناطق الصناعية والإنتاجية، والاستفادة من الخبرات المتاحة لكل منها، سيكون كفيلاً بحل مشكلات هذه الدول في المدى المنظور، وتعزيز قدراتها على التعاون.

أما دول الخليج، فخير لها بعد ذلك أن تتعاون مع منظوماتٍ عربيةٍ متناسقة، مثل تجمّع المشرق العربي، والتجمع المصري السوداني، والتجمّع المغاربي، وأن تفتح أمامها فرص التنوع والاستثمار في هذه الدول. أما إن بقي مجلس التعاون على هذا الحال من التفكيك، فستكون دوله الأكثر خسارةً على المدى الأطول.
إذا كنا لا نستطيع أن نقيم وطناً عربياً، فعلى الأقل علينا أن نقبل بوجود تجمعات عربية تقوم على علاقات استراتيجية اقتصادية، بدلاً من الاكتفاء بالتبادلات التجارية والخدمية.

ولا بد هنا من التنويه بموقف دولة الكويت، فقد أعادت تقييم سياساتها، بعدما تعرّضت لما تعرّضت له، وما قامت به بعد تحريرها عام 1991، من ردود فعل، وهي تقف الآن داعمةً للأردن، ومناديةً بإصلاح ذات البين بين دولة قطر والدول التي تحاصرها، وهي كذلك تسعى إلى أن تساهم في بناء المجتمعات النامية، من خلال مساهماتها في الصناديق العربية، مثل الصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومن خلال الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، هذا عدا عن الأدوار التي يقوم بها الصندوق الكويتي للاستثمار، والصندوق الكويتي للمشاريع الصغيرة والمتوسطة وغيرها.

آن الأوان لأن نتعلم أن العرب جيران لبعضهم بعضاً، وأن شيئاً لن يغيّر هذا الواقع، وإذا أردنا أن ننسى القواسم المشتركة، مثل التاريخ والحضارة واللغة والدين، فلنتذكّر حقائق التاريخ والجغرافيا، ولنتذكّر أننا مستهدفون.
ما رشح من حقائق صادمة عن الواقع العربي في مؤتمر الحكومات الذي عُقد أخيراً في دبي بحضور أربعة آلاف شخصية، وما تعكسه أرقام الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، يجب أن يدق ناقوس الخطر للذين يملكون والذين لا يملكون.


المساهمون