01 أكتوبر 2022
إصلاحيون وثوّار
يطالبون بتكرار الثورة، ونطالبهم بتكرار مقدّماتها. في كل مرةٍ، يتجه قسم من القوى السياسية المصرية إلى مسار سياسي أو إصلاحي، تنفجر بوجوههم اتهامات الخيانة أو الغباء. لكن الرفاق الغاضبين يتناسون أن هذه الثورة لم تأتِ من الفراغ، ولم نصل إلى 2011 إلا بعد المرور على السنوات التي سبقتها، والتي شهدت حِراكاً إصلاحياً منخفض السقف، كان له أثره في تجهيز المجال العام لما بعده.
عموم الناس ليسوا أبطالاً، وإقناعهم بأن هذا العمل آمنٌ لا يقل أهميةً أبداً عن إقناعهم بمدى جدواه، وبمجرد إطلاق كرة ثلج المشاركة لن يعرف أحدٌ إلى أين ستصل.
في عام 2005 ترشح أيمن نور ضد حسني مبارك، لم يتوهم أحدٌ أن الانتخابات نزيهة، كما لم يكن تاريخ نور نائباً برلمانياً عن حزب الوفد يُبشر بالكثير، لكن حالة الفراغ التي احتاجت من يملأها، وتعامل نور الذكي مع الأمر بالجدية الكافية، أدّى إلى بروزه المُبهر في سرعته، وهو ما أربك النظام ودفعه إلى سجنه بعدها. لكنه كان قد بدأ النموذج، وهكذا شهدنا بعدها الجمعية الوطنية للتغيير التي أطلقت حملة جمع التوقيعات على مطالب التغيير السبعة، أو ما يعرف بـ "بيان البرادعي". وفي الحقيقة، كانت تلك المطالب منخفضة السقف للغاية، لا تطالب برحيل مبارك، بل فقط بعدم ترشّحه بعد نهاية فترته الخامسة.
فيما بعد، كرّرت صفحة خالد سعيد لعبة الأسقف المنخفضة نفسها. كان كل المطلوب أن يقف المشاركون صامتين ينظرون إلى النيل. يبدو هذا بسيطاً وآمناً، وبالتالي، فهو جذاب، وهذا الجذب هو المطلوب بالضبط، وهو الذي تطور إلى الدعوة إلى يوم 25 يناير، والتي كانت بدورها ترفع مطلباً محدوداً جداً، هو إقالة وزير الداخلية.
لكن للإصلاحية مخاطرها أيضاً، وأبرزها أن تتحوّل إلى إفسادية لنفوس الإصلاحيين قبل غيرهم. تعرف مصر تراثاً طويلاً من الأحزاب الكرتونية الهزلية، كما شهدت سنوات ما قبل الثورة انضمام بعض الشخصيات إلى لجنة سياسات الحزب الوطني مع نجل مبارك، تحت توهم أن هذا سيساعدهم على الإصلاح من الداخل. أحياناً، يستمر خداع النفس، وأحياناً تتحول النفس تماماً، بعد أن تذوق شبكات الفساد والسلطة.
المخاطرة الإصلاحية الأخرى هي فقدان حِراك الشارع الحساسية. وبالتالي، بدلاً من أن يكون غرض خفض السقف جذب أكبر قدر من المشاركة، تتحول الوسيلة إلى غايةٍ، وبدلاً من أن يكون الإصلاحي في خط الجماهير نفسه، أو يسبقهم بخطوة واحدة، تسبقه الجماهير، ويتحوّل إلى خصم يحاول وقف تقدمها.
ولعل العامل الرئيسي لتجنب ذلك هو الرؤية السياسية التي تمنح وعياً مستمراً بالمسار والهدف، وكذلك الحرص على البقاء على تخوم المعارضة، لا النظام، سواء بالمعنى السياسي أو بالمعنى الجسدي البحت.
يمكن أن تستخدم الإصلاحية أدوات النظام، كالدعاوى القضائية، والمشاركة بالانتخابات، والظهور بالإعلام، لكنها تحتفظ بالوعي بأنها أدوات. لا أوهام بنزاهة كاملة أو حياد مطلق، ولكن تعامل متوازن، وضغط نحو الأفضل أو الأقل سوءاً، وإدراك أن المسار، بحد ذاته، مفيد بغض النظر عن نتائجه القريبة. كانت مكاسب "الإخوان المسلمين" من المشاركة في كل الانتخابات البرلمانية منذ عقود، وفي أسوأ مناخ سياسي ممكن، أكبر بكثير من هذه المقاعد التي كانوا ينتزعونها من أنياب التزوير، ثم حين انفتح المجال، أخيراً، كانوا هم فقط الجاهزين.
لا أحد يملك أن يأمر الملايين بالمشاركة، وقتما يرغب، في الانتخابات أو في التظاهر، لكننا نملك أن نسعى إلى توفير المناخ الجاهز، حتى لحظة توافر "المزاج الشعبي العام"، وتوفير البديل في لحظة انفتاح المجال السياسي، سواء بالثورة أو بغيرها. وحتى ذلك الحين، يجب دعم كل حِراك بالملفات الجزئية، مثل تيران وصنافير، نقابات الأطباء والصحفيين والمحامين، الصحة والتعليم، المشاركة في كل أنواع الانتخابات، دعم الشخصيات الإصلاحية من داخل الدولة، مثل هشام جنينة.
إذا كنا الآن عُدنا إلى أيام أسوأ من عهد مبارك، فلا منطق لرفض العمل بأساليب ذلك العهد. من لا يعمل وقت الإصلاحية لن يجد رصيداً وقت الثورية.
عموم الناس ليسوا أبطالاً، وإقناعهم بأن هذا العمل آمنٌ لا يقل أهميةً أبداً عن إقناعهم بمدى جدواه، وبمجرد إطلاق كرة ثلج المشاركة لن يعرف أحدٌ إلى أين ستصل.
في عام 2005 ترشح أيمن نور ضد حسني مبارك، لم يتوهم أحدٌ أن الانتخابات نزيهة، كما لم يكن تاريخ نور نائباً برلمانياً عن حزب الوفد يُبشر بالكثير، لكن حالة الفراغ التي احتاجت من يملأها، وتعامل نور الذكي مع الأمر بالجدية الكافية، أدّى إلى بروزه المُبهر في سرعته، وهو ما أربك النظام ودفعه إلى سجنه بعدها. لكنه كان قد بدأ النموذج، وهكذا شهدنا بعدها الجمعية الوطنية للتغيير التي أطلقت حملة جمع التوقيعات على مطالب التغيير السبعة، أو ما يعرف بـ "بيان البرادعي". وفي الحقيقة، كانت تلك المطالب منخفضة السقف للغاية، لا تطالب برحيل مبارك، بل فقط بعدم ترشّحه بعد نهاية فترته الخامسة.
فيما بعد، كرّرت صفحة خالد سعيد لعبة الأسقف المنخفضة نفسها. كان كل المطلوب أن يقف المشاركون صامتين ينظرون إلى النيل. يبدو هذا بسيطاً وآمناً، وبالتالي، فهو جذاب، وهذا الجذب هو المطلوب بالضبط، وهو الذي تطور إلى الدعوة إلى يوم 25 يناير، والتي كانت بدورها ترفع مطلباً محدوداً جداً، هو إقالة وزير الداخلية.
لكن للإصلاحية مخاطرها أيضاً، وأبرزها أن تتحوّل إلى إفسادية لنفوس الإصلاحيين قبل غيرهم. تعرف مصر تراثاً طويلاً من الأحزاب الكرتونية الهزلية، كما شهدت سنوات ما قبل الثورة انضمام بعض الشخصيات إلى لجنة سياسات الحزب الوطني مع نجل مبارك، تحت توهم أن هذا سيساعدهم على الإصلاح من الداخل. أحياناً، يستمر خداع النفس، وأحياناً تتحول النفس تماماً، بعد أن تذوق شبكات الفساد والسلطة.
المخاطرة الإصلاحية الأخرى هي فقدان حِراك الشارع الحساسية. وبالتالي، بدلاً من أن يكون غرض خفض السقف جذب أكبر قدر من المشاركة، تتحول الوسيلة إلى غايةٍ، وبدلاً من أن يكون الإصلاحي في خط الجماهير نفسه، أو يسبقهم بخطوة واحدة، تسبقه الجماهير، ويتحوّل إلى خصم يحاول وقف تقدمها.
ولعل العامل الرئيسي لتجنب ذلك هو الرؤية السياسية التي تمنح وعياً مستمراً بالمسار والهدف، وكذلك الحرص على البقاء على تخوم المعارضة، لا النظام، سواء بالمعنى السياسي أو بالمعنى الجسدي البحت.
يمكن أن تستخدم الإصلاحية أدوات النظام، كالدعاوى القضائية، والمشاركة بالانتخابات، والظهور بالإعلام، لكنها تحتفظ بالوعي بأنها أدوات. لا أوهام بنزاهة كاملة أو حياد مطلق، ولكن تعامل متوازن، وضغط نحو الأفضل أو الأقل سوءاً، وإدراك أن المسار، بحد ذاته، مفيد بغض النظر عن نتائجه القريبة. كانت مكاسب "الإخوان المسلمين" من المشاركة في كل الانتخابات البرلمانية منذ عقود، وفي أسوأ مناخ سياسي ممكن، أكبر بكثير من هذه المقاعد التي كانوا ينتزعونها من أنياب التزوير، ثم حين انفتح المجال، أخيراً، كانوا هم فقط الجاهزين.
لا أحد يملك أن يأمر الملايين بالمشاركة، وقتما يرغب، في الانتخابات أو في التظاهر، لكننا نملك أن نسعى إلى توفير المناخ الجاهز، حتى لحظة توافر "المزاج الشعبي العام"، وتوفير البديل في لحظة انفتاح المجال السياسي، سواء بالثورة أو بغيرها. وحتى ذلك الحين، يجب دعم كل حِراك بالملفات الجزئية، مثل تيران وصنافير، نقابات الأطباء والصحفيين والمحامين، الصحة والتعليم، المشاركة في كل أنواع الانتخابات، دعم الشخصيات الإصلاحية من داخل الدولة، مثل هشام جنينة.
إذا كنا الآن عُدنا إلى أيام أسوأ من عهد مبارك، فلا منطق لرفض العمل بأساليب ذلك العهد. من لا يعمل وقت الإصلاحية لن يجد رصيداً وقت الثورية.