وانطلق الجدل بحديث نشر "عن طريق الخطأ" على الموقع الرسمي لحزب العدالة والتنمية، للقيادي في الحزب، عبد العالي حامي الدين، في خلال إحدى جلسات "الحوار الداخلي"، قال فيه إن الملكية بشكلها الحالي معيقة للتقدم والتطور والتنمية، وأن الملكية مؤسسة مركزية في الحياة السياسية، لكن هذا لا يعني أن الشكل الذي يتخذه النظام الملكي الحالي مفيد للديمقراطية وللحياة السياسية في البلاد".
هذا الكلام تلقفه أولاً الأمين العام السابق لحزب الأصالة والمعاصرة، محمد الشيخ بيد الله، الذي اتهم الإسلاميين ـ بدون تمييز بينهم ـ بكونهم يمارسون "التقية السياسية". بعدها دخل الأمين العالم لحزب الأصالة والمعاصرة، حكيم بنشماش، على الخط متهماً حزب العدالة والتنمية، صاحب المرجعية الإسلامية، بكونه يروج لمشروع نكوصي تغلغل بشكل كبير في دواليب المؤسسات وفي مفاصل المجتمع، وهو ما يدعو إلى العمل الجدي على مواصلة حماية قيم المشروع الديمقراطي.
في المقابل، رد حامي الدين بقوة على بيد الله واصفاً إياه بالاسترزاق في موضوع الملكية. بدوره اتهم القيادي بحزب العدالة والتنمية، الوزير السابق، إدريس الأزمي، بيد الله بكونه "يقوم بانتهازية مفضوحة ودور مقيت باللعب على حبل مستنقع الوقيعة بين الحزب ومناضليه والمؤسسة الملكية".
هذه الاتهامات والسجالات القوية دفعت حزب العدالة والتنمية إلى إصدار بيان رسمي أكد من خلاله تمسكه بثوابت البلاد، ومن بينها المؤسسة الملكية، ورفض ما سمّاه "نزوعات التشكيك والافتراء". وقبل ذلك بادر رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني إلى تقريع ضمني لحامي الدين من خلال حديثه عن رفض الحزب لتواجد منتقدي الملكية بين صفوفه.
وتسببت تراشق الاتهامات بتجدد النقاش بشأن علاقة الإسلاميين المغاربة، بمختلف أطيافهم وتياراتهم، بالمؤسسة الملكية في البلاد، ونظرتهم إلى النظام السياسي الحاكم، وكيف تعاملوا معه، وأيضاً مدى احتواء أو إقصاء الدولة للإسلاميين سواء المشاركين في "اللعبة السياسية" أو الرافضين لها.
تقلبات على مراحل
مرّت العلاقة بين الإسلاميين والمؤسسة الملكية في المغرب بمراحل متعددة وفق اختلاف طبيعة ومسارات هذه التيارات الإسلامية، وقد بدأت بعيد استقلال البلاد سنة 1956، وطيلة سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي، عندما خاضت الدولة حرباً ضروساً مع اليساريين، فلجأت إلى خدمات "الإسلاميين" بهدف قص أجنحة اليساريين والثوريين.
وخلال السبعينيات من القرن الماضي، وفي ظل حكم الملك الراحل الحسن الثاني، واجهت جماعة "الشبيبة الإسلامية" التيارات اليسارية المتنامية التي شكلت صداع رأس حقيقي للعاهل الراحل، ولكن بعد تحجيم نجاعتها وتغلغل الإسلاميين في المجتمع، وجدت الدولة نفسها أمام ما اعتبرته "خطراً إسلامياً" عليها، فكانت المواجهة بمحاولة إبعاد هذه التيارات التي حاولت منافسة النظام في شرعيته وسلطته الدينية.
كما أن تبدد حبل الود بين الإسلاميين والمؤسسة الملكية خلال تلك الحقبة من تاريخ البلاد ساهمت فيه حسابات وتحولات سياسية عدة، اشتراك فيها إسلاميون انطلاقاً من خلفياتهم الإيديولوجية وأهدافهم السياسية. فالإسلاميون المغاربة ليسوا كتلة واحدة وليست لديهم تصورات موحدة. وعلى الرغم من إقرارهم جميعاً بأهمية مؤسسة الملكية، لكنهم يختلفون بشأن شكل هذه المؤسسة الحيوية. مع العلم أن المؤسسة الملكية حاولت مبكراً سحب بساط "الشرعية الدينية" من أي حزب أو جماعة تتخذ المرجعية الإسلامية خطاً سياسياً لها، أو تزعم الحديث باسم الدين، من خلال نص الدستور في الفصل 41 على أن الملك هو "أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية".
وعقب انتهاء مرحلة الود حلت مرحلة جسّ النبض بين الدولة وجماعات إسلامية من خلال تنظيم وزارة الأوقاف للقاءات "جامعات الصحوة"، والتي حضرتها في السبعينات والثمانينات شخصيات إسلامية دولية وازنة، وكانت السلطات تحاول في ذلك الحين معرفة مدى قبول إسلاميين مغاربة العمل تحت لواء النظام، والمشاركة في "اللعبة السياسية".
وجنحت حركة "الشبيبة الإسلامية" إلى فكرة التغيير السياسي بالقوة والعمل السري، وهو ما جعل الدولة تصنفها ضمن الحركات المحظورة. كما تابعتها بتهم لها علاقة باغتيال القيادي اليساري عمر بنجلون عام 1975. وغادر قياديو الحركة، تحديداً الشيخ عبد الكريم مطيع، البلاد في منفى اختاره في ليبيا ثم في بريطانيا، غير أن مراجعات سياسية وفكرية دفعت قياديين من الشبيبة إلى العودة أخيراً إلى أرض الوطن، فضلاً عن تقادم جريمة بنجلون.
من جانبها لم تعرف علاقة جماعة العدل والإحسان، كبرى التنظيمات الإسلامية المعارضة بالمغرب، أي مهادنة سياسية مع النظام الحاكم في البلاد، إذ أن مشروعها السياسي يقوم أساسا على نزع رداء "الشرعية الدينية" عن المؤسسة الملكية، بالدعوة إلى تأسيس "دولة الخلافة على منهاج النبوة".
هذا الأساس في نهج "العدل والإحسان" دفع بها إلى مصادمات عنيفة مع السلطة، أبرزها سجن وعزل زعيمها الشيخ الراحل عبد السلام ياسين في إقامة جبرية، في عهد الملك الراحل، قبل أن تعرف هذه العلاقة نوعاً من "الهدوء" في ولاية الملك الحالي محمد السادس، لكن دون قدرة الدولة على الاحتواء السياسي للجماعة ودفعها إلى المشاركة في الانتخابات، وهو ما عرضها لما تسميه محاولة الإقصاء من المشهد السياسي.
وبخلاف شكاوى "الجماعة" من الإقصاء، مع التمسك برفض تبني العمل السري أو التغيير بالقوة، فإن إسلاميي العدالة والتنمية (الحزب الحاكم في البلاد منذ 2011 إلى اليوم) اختاروا القبول بالاحتواء والمشاركة في "اللعبة السياسية"، على الرغم من البدايات المتعرجة والمذبذبة في علاقات هذا الحزب، منذ كان في رحم حركة التوحيد والإصلاح، مع النظام السياسي القائم بالبلاد.
مرّت علاقة "العدالة والتنمية" بصناع القرار السياسي في البلاد بمنعطفات عدة تبعاً للظروف والسياقات التي عرفتها البلاد، لكن أقسى ضربتين تلقاهما كانتا في الأولى بعيد الاعتداءات الإرهابية التي ضربت الدار البيضاء في مايو/أيار 2003، عندما تنامت دعوات من جهات في الدولة إلى حل الحزب بدعوى أن له مسؤولية معنوية في ما حصل، غير أن الملك رفض هذا التوجه، بحسب ما صرح به الزعيم السابق للحزب عبد الإله بنكيران أكثر من مرة.
وظل حزب العدالة والتنمية مصنفاً في خانة المعارضة منذ تأسيسه عام 1998، وشارك في عدد من المحطات الانتخابية لكن بحصص معينة دون تغطية جميع الدوائر الانتخابية، وهو ما فسره مراقبون حينها بأنها رغبة "الدولة المتوجسة" في عدم منح الفرصة كاملة لإسلاميي العدالة والتنمية، قبل أن تأتي رياح الربيع العربي في 2011 ليدخل الحزب مرحلة جديدة في تعاطيه مع المؤسسة الملكية.
وجاءت احتجاجات حركة 20 فبراير لتبكّر بانتخابات تشريعية سابقة لأوانها حملت العدالة والتنمية إلى تصدر المشهد السياسي والحزبي ورئاسة الحكومة، قبل أن تنتهي الولاية الأولى وتجرى انتخابات ثانية في أكتوبر/تشرين الأول 2016، ويتقدم الحزب نفسه، غير أن بنكيران فشل في تشكيل الحكومة، ما دفع الملك إلى التدخل وإعفائه من رئاسة الحكومة، ويعين سعد الدين العثماني من نفس الحزب لقيادة الحكومة في ولايتها الثانية.
وكانت هذه الضربة الثانية التي تلقاها حزب العدالة والتنمية، والتي ما تزال تداعياتها السياسية بارزة داخل الحزب، حيث انقسم إلى تيارين داخليين، واحد يناصر بنكيران والثاني يؤيد العثماني، ومعه لفيف من وزراء الحزب، لكن من دون أن تحدث انشقاقات، وهو ما عزاه محللون إلى قوة التنظيم الداخلي الصامد أمام التحديات والهزات الكبيرة.