إسقاط الطائرة الروسية مفصلي سوريّاً:منطقة آمنة وتغيير قواعد الاشتباك

24 نوفمبر 2015
الطائرة الروسية المستهدفة أمس (فاتح أكتاش/الأناضول)
+ الخط -
ضربت تركيا ضربتها ليكون مفعول إسقاط الطائرة الروسية فوق الحدود السورية ــ التركية، أمس الثلاثاء، بمثابة تغيير لقواعد الاشتباك التي ظلت روسيا تفرضها منذ تدخلها في سورية لمنع سقوط نظام بشار الأسد نهاية سبتمبر/أيلول الماضي؛ أُسقطت أول طائرة سوفييتية ــ روسية منذ الخمسينات من قبل إحدى دول حلف شمال الأطلسي ليصبح جائزاً اعتبار يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 يوماً مفصلياً في الحرب السورية وفي العلاقات التركية ــ الأطلسية ــ الروسية. تغيير قواعد الاشتباك قد يبدأ بإقامة المنطقة الآمنة بحدود أوسع مما كان مطروحاً سابقاً، بما أن "تركيا، وبالتعاون مع حلفائها ستنشئ قريباً منطقة إنسانية آمنة بين جرابلس السورية وشاطئ المتوسط، لمنع تكرار مأساة إنسانية جديدة ولتوفير فرصة للمهاجرين الذين يُريدون العيش بوطنهم، ومن لا يدعم جهود تركيا في إنشاء منطقة آمنة سيكون شريكاً في تحمل مسؤولية مقتل 380 ألف بريء" على حد تعبير الرئيس رجب طيب أردوغان، مساء أمس.

اقرأ أيضاً: أردوغان: كان يجب علينا الرد على الانتهاكات الروسية

حجم الضربة التي تلقتها روسيا بدا واضحاً في نوع التصريحات غير الدبلوماسية، لا بل الحربية من قبل كل من الرئيس فلاديمير بوتين ورئيس دبلوماسيته سيرغي لافروف الذي ألغى زيارته التي كانت مقررة إلى إسطنبول اليوم الأربعاء. ومن الكلام العصبي للرجلين، يمكن الاستدلال على النغمة المتوقعة للأدبيات الروسية في المرحلة المقبلة ضد تركيا، وادّعاء أنها داعمة لتنظيم "داعش". فمن جهة، اتهم بوتين تركيا رسمياً بأداء هذا الدور من خلال ادعائه أن "داعش" يكسب أمواله من تجارته النفطية مع تركيا، ومن جهة ثانية وصل فقدان الأعصاب بلافروف حدّ اعتبار أن "الخطر الارهابي في تركيا لا يقل عن الخطر الإرهابي في سيناء".


بدأت القصة عند التاسعة والعشرون دقيقة بتوقيت القدس المحتلة فوق حدود جبل التركمان السورية مع ولاية هاتاي حين أسقطت طائرة "سوخوي 24" بنيران المقاتلات التركية "أف 16" ليقتل الطيارين الروسيين المظليين بنيران المعارضة السورية في جبل التركمان. وكأن الضربة لم تكن كافية بحد ذاتها، إذ أسقطت مروحية روسية أيضاً في المنطقة عينها بصاروخ مضاد للدروع، لدى محاولتها العثور على الجنديين الطيارين على ارتفاع منخفض مثلما أظهرته تسجيلات مصورة. صفعة مزدوجة تسببت بهيستيريا لدى بوتين الذي هدّد بأن "الطعنة في الظهر التي نفذها متواطئون مع الإرهابيين"، بحسب وصفه من سوتشي للخطوة التركية، ستكون لها "عواقب وخيمة" على العلاقات التركية ــ الروسية، وهو ما تابعه لافروف بدعوة المواطنين الروس إلى عدم التوجه إلى تركيا، في محاولة منه لرسم صورة مشابهة للوضع القائم في مصر غداة إسقاط "داعش" الطائرة الروسية. لكن الخطوة التركية بدت مدروسة للغاية، إذ احترمت قواعد الاشتباك الموضوعة، ولم تُسقط الطائرة التركية إلا بعد تحذيرها عشر مرات خلال خمسة دقائق من دخولها الأجواء التركية، بحسب إعلان أنقرة الذي أكده المتحدث باسم التحالف الدولي ضد "داعش"، الكولونيل ستيف وارين، رغم تكذيب بوتين لهذه الوقائع وتمسكه بأن الطائرة الروسية كانت بعيدة كيلومتراً واحداً عن الأراضي التركية.


وعلى الفور، سادت أجواء حربية مع تتالي الاجتماعات العسكرية الطارئة الأطلسية والروسية والتركية، بموازاة انخفاض حاد لسعر الليرة التركية والدولار وعدم الاستقرار في البورصة والسوق المالية عموماً. وقد طال صبر القيادة التركية إزاء الاستفزازات الروسية منذ نهاية سبتمبر الماضي، واستفادت موسكو من بقاء تركيا، منذ يونيو/حزيران الماضي، عملياً بلا حكومة مكتملة الصلاحيات وبلا استقرار برلماني أُنجز بعد انتخابات مطلع نوفمبر الحالي. وقد لا يكون عبثاً تزامن ولادة حكومة أحمد داود أوغلو بعد دقائق أو ساعات من إسقاط المقاتلة الروسية، وهو ما وفر فرصة لداود أوغلو للرد بقوة على التهديدات الروسية على قاعدة أن أنقرة "ستفعل كل ما يلزم للدفاع عن سيادتها". كلام لا شك أنه وجد أرضية قوية بما أن الحكومة الجديدة تولى فيها المناصب الامنية عدد من الوزراء المخضرمين، فيما بدا "حكومة حربية". وأطلق داود أوغلو مجموعة إشارات ربما تجد ترجمتها ميدانياً، بقوله إنه "على العالم بأسره أن يكون مدركاً وواثقاً من أننا سنقوم بما يلزم، من أجل إحلال السلام في تركيا ومحيطها، وضمان ديمقراطية وطمأنينة وأمن بلادنا داخل حلقة النار هذه".


لم تبد التطورات الأخيرة مفاجئة بكل معنى الكلمة، إذ إن الحملة العسكرية السورية النظامية والروسية مع الحلفاء كادت تصل إلى معظم الحدود التركية السورية باستثناء ريف حلب وإدلب الشمالي، الذي سيحاول النظام ايضاً التقدم نحوه، مما يعني خنقاً شاملاً للمعارضة السورية في الشمال، خاصة بعدما سيطرت قوات حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السوري للعمال الكردستاني) والمتحالف مع النظام السوري وإيران على معظم الجزء الشرقي للحدود، بينما تبدو الدول الداعمة للمعارضة السورية مترددة في تنفيذ المنطقة الآمنة وبالتالي السيطرة على ما يقارب 100 كيلومتر واقع تحت سيطرة "داعش". وللمنطقة التي سقطت فيها المقاتلة الروسية والمروحية بعدها، أي جبل التركمان، أهمية استثنائية لدى أنقرة، إذ تقطنها غالبية تركمانية من "إخوة الدم وأبناء العمومة" مثلما تسميهم الأدبيات التركية القومية، وقد تعرضوا ولا يزالون لحملة إلغاء على يد النظام السوري وحلفائه الأجانب.


اقرأ أيضاً: رسائل متعددة الجنسيات للمنطقة الآمنة... واحتمالات مشاركة البشمركة بريّاً

كان لافتاً جداً المفعول السريع للعملية التركية على التطورات الميدانية، إذ استعادت قوات المعارضة السورية في جبل التركمان، عدداً من المناطق التي خسرتها أخيراً، أبرزها الجبل الأحمر، والتقدم باتجاه مدينة كسب. أكثر من ذلك، قام الجيش التركي بتعزيز إجراءاته على الحدود في المنطقة بسَوق مجموعة من الدبابات إلى منطقة يايلي داغ، المواجهة لجبل التركمان. أما الرد الكلامي الحربي الروسي فتولى بوتين ولافروف ترجمته على شاكلة تصريحات عصبية، وخطوات سياسية وأخرى عسكرية عملية ترجمت بعبور إحدى السفن الحربية الروسية التي تدعى "يامال" مضيق البوسفور، بعد أقل من ساعة على إسقاط الطائرة الروسية، في طريقها إلى المتوسط.

لكن كان لافتاً تأكيد مساعد وزير الطاقة الروسي أناتولي يانوفسكي استمرار ضخ الغاز الروسي إلى تركيا، وفق الاتفاقيات المبرمة سابقاً بين الطرفين. سياسياً، ألغيت زيارة لافروف التي كانت مقررة إلى إسطنبول للتباحث في الأزمة السورية والعلاقات المشتركة، على وقع استدعاء الخارجية التركية القائم بالإعمال الروسي، وهو ما ردت عليه موسكو باستدعاء الملحق العسكري التركي في موسكو. أما أطلسياً، فظهر التضامن مع تركيا سريعاً من خلال اجتماع طارئ عقده الحلف مساء أمس، وسط خشية وزير الخارجية الألمانية فالتر شتاينماير أن تؤثر الحادثة الحدودية على تنفيذ مخرجات فيينا ومحاولات إيجاد حل سلمي للملف السوري، على حد تعبيره. وردا على تصريحات داود اوغلو التي أكد خلالها بأن "من حق تركيا الرد إذا انتُهك مجالها الجوي على رغم من التحذيرات المتكررة"، اعتبر بوتين أن إسقاط الطائرة الروسية "طعنة في الظهر"، مهددا أنقرة بالقول: "سيترتب عليها (حادثة إسقاط الطائرة) عواقب وخيمة على العلاقات مع تركيا"، رافضاً الرواية التركية التي تؤكد بأن الإسقاط جاء نتجية خرق الطائرة الروسية للاجواء التركية، بالتأكيد على البروباغندا الروسية التي تروج أن الطائرة كانت تقصف "داعش"، بينما يدرك العالم بأسره أنه لا وجود فيه للتنظيم في جبل التركمان.


وردّت أنقرة بحملة دبلوماسية عبر اتصالات بمجموعة كبيرة من المسؤولين الغربيين. وأعلن ممثل المفوضية الأوروبية ألكسندر فينترشتاين أن المفوضية تراقب عن كثب واقعة إسقاط الطائرة الحربية الروسية، بينما وصفت وزارة الخارجية البريطانية الواقعة بـ"الجدية جداً". أما التعليق الذي أثار موجة تعليقات منها ساخرة، فصدر عن مصدر عسكري في النظام السوري ندّد بإسقاط الطائرة بما أنه "اعتداء سافر على السيادة السورية". وعن مآلات التصعيد العسكري بين الأطلسي وروسيا، أكد مسعود حقي جاشن، الضابط التركي السابق، الأستاذ في الكلية الحربية التركية، لـ"العربي الجديد"، بأنه لا يرى بأن هذا التصعيد سينزلق أكثر من ذلك نحو المواجهة المباشرة، لأنها "لن تكون أخطر من أزمة الصواريخ الكوبية في الخمسينات، ولا أعتقد بأن الحكومة التركية صعدت من دون الاتفاق مع باقي الحلفاء، ففي نهاية الامر هذه الحدود ليست الحدود التركية فحسب بل هي حدود الأطلسي قبل كل شيء، ولن يحتمل الاقتصاد الروسي أي حرب واسعة مع الغرب، وبالتالي لا أعتقد بأن الرد الروسي سيتجاوز الحرب بالوكالة على الأراضي السورية، أو الضغط الاقتصادي، وفي النهاية قد يكون هذا التصعيد سبباً آخراً لإنهاء الأزمة السورية بضمان مصالح جميع الاطراف".

اقرأ أيضاً: حملة إلغاء تركمان سورية والخطوات الاستباقية لتباشير المنطقة الآمنة