إسرائيل والتهرب من الملاحقة القضائية

26 يناير 2020
استخدمت إسرائيل الأسلحة المحرمة دولياً (سامح رحمي/Getty)
+ الخط -
لم يُسجل أن تعاملت إسرائيل ومنذ تأسيسها بجدية مع أي مؤسسات قضائية أممية، أو لجان تحقيق دولية، أو قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، عندما يتعلق الأمر بالشعب الفلسطيني والانتهاكات الخطيرة التي يتعرض لها، من جريمة الاستيطان وجدار الفصل العنصري، إلى جرائم الحرب وقتل المدنيين في حروب إسرائيل ضد قطاع غزة، والاغتيالات والإعدامات الميدانية في الضفة الغربية، امتداداً إلى التعذيب والاعتقال والحرمان من التنقل، وهي جرائم يعاقب عليها القانون الدولي وفق كل المواثيق والمعاهدات المتعلقة بحقوق الأفراد في زمن الحرب ومناطق الصراع، غير أن تحولاً قد يكون جوهرياً طرأ في نمط التعامل مع جرائم إسرائيل وإفلاتها من العقاب، مع انضمام دولة فلسطين إلى محكمة الجنايات الدولية عام 2015 بصفتها عضواً مراقباً في الأمم المتحدة، وإعلان المدعية العامة في المحكمة فاتو بنسودا نيتها إجراء تحقيق في جرائم مُفترضة في الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس الشرقية بعد دراسة أولية وفرت معلومات معقولة تمهد الطريق لإجراء التحقيق، وطلبت المدعية العامة قراراً من الدائرة التنفيذية في المحكمة (هيئة قضائية) في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2019 يؤكد أو ينفي ولاية المحكمة على الأراضي الفلسطينيّة، وتحديد المناطق التي سيشملها التحقيق.

وتخشى إسرائيل ليس فقط من مذكرات الاعتقال والتحقيق وتنفيذ عقوبات ضد قادة سياسيين وأمنيين إسرائيليين سابقين وحاليين، بل أيضاً مما تدعيه محاولات "نزع الشرعية عن إسرائيل" أي تعريتها أمام المجتمع الدولي بالكشف عن سلسلة الجرائم التي تصل إلى حد جرائم ضد الإنسانية والتي ارتكبتها ضد الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، وقلب الصورة النمطية عن دولة الديمقراطية وحقوق الإنسان والقضاء النزيه، التي شكلتها عبر سنوات طويلة من الدعاية الزائفة والبروبغندا المضللة.

وتخشى إسرائيل أيضاً من فرض قيود مستقبلية على عملياتها العسكرية المستقبلية في قطاع غزة أو الضفة الغربية أو أي مناطق أخرى، والتي اعتادت فيها على تفعيل قوتها النارية الهائلة لتحقيق حسم سريع وواضح بغض النظر عن الخسائر في الارواح والممتلكات مما قد يصل إلى جرائم حرب.

سارعت إسرائيل وبكل مؤسساتها ذات العلاقة؛ الدبلوماسية والأمنية والحقوقية لوضع استراتيجية مناسبة تتصدى للتهديد الذي يشكله شروع محكمة الجنايات الدولية في إجراء تحقيق جنائي، لأنها تدرك تماماً أنها ستكون في الكفة الخاسرة، وأن المحاكمة إن سارت إلى نهايتها سيكون لها تداعيات وخيمة على صورة إسرائيل على الساحة الدولية، وعلى فرصها من الإفلات من العقاب، وتجاوز انتهاكاتها الفجة للقانون الدولي والإنساني:

أولاً: المسار القانوني
يتصدر هذه الاستراتيجية من الناحية القانونية، التشكيك الإسرائيلي في الولاية الجغرافية للمحكمة على الأراضي الفلسطينية، بالاستناد إلى أن السلطة الفلسطينية لا تمثل دولة ذات سيادة، وليس لها حدود واضحة معترف بها دولياً، كما أن إسرائيل لم توقع على اتفاقيات روما المؤسسة لمحكمة الجنايات الدولية، وهو ما عبر عنه المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية أفيخاي ماندلبليت عندما قدم مذكرة مكتوبة أشار فيها إلى أن "الموقف القانوني المبدئي لدولة إسرائيل، يتمثل في أن المحكمة تفتقر إلى الاختصاص فيما يتعلق بإسرائيل"، وأنه "يمكن فقط للدول ذات السيادة تفويض الولاية القضائية الجنائية إلى المحكمة، إذ من الواضح أن السلطة الفلسطينية لا تفي بمعايير الدولة بموجب القانون الدولي والنظام الأساسي التأسيسي للمحكمة".
وفي نفس السياق وحسب اتفاق أوسلو فإن المحاكم الفلسطينية غير مخولة حسب الفهم الإسرائيلي مباشرة أي تحقيقات ضد إسرائيليين حتى لو ارتكبوا مخالفات جنائية في مناطق السلطة، ووفق هذا المنظور القانوني الإسرائيلي لا يحق للفلسطينيين تقديم شكاوى والمطالبة بمحاكمات خارج السياق الجغرافي للأراضي المحتلة.

ومن جانب آخر تدعي إسرائيل أن لديها هيئات رقابة، ونظاما قضائيا مستقلا، ومحاكم اختصاص قامت بتحقيقات في انتهاكات من جنود أو مستوطنين ارتكبوا مخالفات ضد فلسطينيين، وعليه ومنذ العام 2000 حتى 2016 حققت شرطة التحقيقات العسكرية بجيش الاحتلال الإسرائيلي، في 262 قضية في الضفة الغربية وقطاع غزة، تسبب فيها الجيش الإسرائيلي في مقتل فلسطينيين، من هذه التحقيقات 17 قضية أفضت بالادّعاء العسكري إلى تقديم لوائح اتهام ضد جنود.

ثانياً: المسار السياسي
تتعلق الاستراتيجية السياسية لمواجهة تحقيقات المحكمة، في ممارسة ضغوط، وتوظيف الإدارة الأميركية المنحازة لإسرائيل وبعض الدول الأوربية القريبة من إسرائيل في الدفاع عن الموقف الإسرائيلي.

ستعمد إسرائيل سياسياً وعبر حلفائها الغربيين خاصة الولايات المتحدة إلى ممارسة ضغوط كبيرة ومتواصلة على المدعية العامة للمحكمة لثنيها عن المضي قدماً في إجراء التحقيق، أو التأثير على موقفها لصالح الموقف الإسرائيلي، وكذلك ممارسة ضغوط على القضاة الذين ستكلفهم المحكمة للبت في قضايا جرائم إسرائيل المُفترضة، أو على الأقل التباطؤ والتلكؤ في إجراء التحقيقات لتضيع بين زحام الأحداث على مدار سنوات طويلة.

كذلك من الأساليب التي قد تلجأ لها إسرائيل الضغط على الولايات المتحدة لتفعيل نفوذها في مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار بتأجيل أو إلغاء التحقيقات التي تجريها محكمة الجنايات، بحجج واهية من قبيل عدم التأثير على مسار التسوية، أو الرغبة باستئناف المفاوضات.
ومن المتوقع أيضاً عدم تعاون إسرائيل مع التحقيقات، وفرض قيود على حركة كل من له علاقة بمحكمة الجنايات الدولية، ومنعهم من دخول إسرائيل أو الأراضي المحتلة، وقد تفرض إسرائيل قيوداً على منظمات حقوق الإنسان التي توثق تقارير انتهاكات إسرائيل بحق الفلسطينيين سواء أكانت المنظمات فلسطينية أو إسرائيلية.

ومن الأساليب التي قد تلجأ إليها إسرائيل في حال عجزها عن وقف التحقيقات، الدفع باتجاه مساواة جرائم إسرائيل خاصة في حروب قطاع غزة، مع بعض الانتهاكات من الفلسطينيين حسب قرار المدعية العامة بالتحقيق في جرائم وانتهاكات من الاسرائيليين أو الفلسطينيين، والمقصود هنا إطلاق الصواريخ من قطاع غزة، واستخدام المدنيين كدروع بشرية، وما يحدث على حدود القطاع من حرائق الطائرات الورقية والمتفجرة.

المساهمون