شكّل بدء الاحتلال الإسرائيلي، يوم الأحد الماضي، أعمال البناء لإقامة سياج حدودي على طول 30 كيلومتراً من إيلات جنوباً في المرحلة الأولى، خطوة لافتة في انتقال الاحتلال لترسيم حدود يفرضها هو على الأرض، تحت ذرائع التطورات الأمنية وانعدام الاستقرار الإقليمي. قرار يترجم أول خطوة في تثبيت رؤية حزب "الليكود" لحدود "دولة" الاحتلال سواء مع المملكة الأردنية، (مع العلم أن الحدود الرسمية مع الجانبين تم الاتفاق عليها مبدئياً، في معاهدة السلام بين الطرفين عام 1994)، أم مع سيناء المصرية، بشكل مغاير للحدود التي يسعى الاحتلال لترسيخها مع سورية في هضبة الجولان، عبر ضمها لسيادة القانون الإسرائيلي. أما الانسحاب الإسرائيلي النهائي من لبنان عام 2000، فيعتبر بدوره ترسيماً للحدود باستثناء مزارع شبعا التي ظلت تحت سلطة الاحتلال.
وقد اعتبر محللون في إسرائيل أن الخطوة المعلنة لبناء السياج الحدودي على امتداد 30 كيلومتراً من إيلات باتجاه الشمال، أمر مؤقت، وأن هذا السياج سيمتد في نهاية المطاف بعد توفير التمويل له (وقد يكون ذلك من خلال المباحثات الإسرائيلية ــ الأميركية لتعزيز التعاون بين الطرفين، على إثر الاتفاق النووي مع إيران).
لكن محلل الشؤون العسكرية في صحيفة هآرتس، عاموس هرئيل، اعتبر في تقرير مطول له أن "التحديات الأمنية التي يفرضها الوضع في العالم العربي، وتحديدا على الحدود مع سورية شمالا، والمخاوف الإسرائيلية من امتداد اللهب إلى الحدود الأردنية، مع ما يرافق ذلك من سيناريوهات لتسلل ووصول قوات لـ "منظمات جهادية" مختلفة مثل "داعش" و"القاعدة"، بات يشكل كابوساً للأجهزة الأمنية وعاملاً مؤثراً تدريجيا على الوضع الأمني الإسرائيلي. ويرى هرئيل أن هذه التطورات، "خلقت تماهياً بين تقديرات الجيش وبين التقديرات والتصور الاستراتيجي الذي يحمله نتنياهو ويسوقه لجهة عدم المسارعة لتسوية مع الأطراف العربية، وخصوصاً مسألة الانسحاب من الجولان السوري المحتل، أو قضية نشر قوات إسرائيلية شرقي الدولة الفلسطينية في غور الأردن". وبحسب هذه الرؤية، فإن هذا التطورات مجتمعة تشكل في نظر بنيامين نتنياهو تأكيداً لصحة مواقفه التفاوضية مع سورية، على حد تعبير الصحافي في "هآرتس"، تحديداً في "مسألة وصول عناصر الجيش السوري إلى شواطئ طبريا وأيضاً الجهات الإسلامية قوات داعش". وعلى حد تعبيره، تنسحب تلك الحسابات أيضاً على إصرار حكومة نتنياهو على إقامة السياج الحدودي مع سيناء. وفي هذا السياق، يبرز هرئيل تحذيرات نتنياهو منذ عام 2011، مع بدء الثورة المصرية، من "مخاطر وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر". ويشير إلى أن جواب نتنياهو على التطورات والتحديات الأمنية يقوم على المزيد من السياج الحدودي وإحاطة إسرائيل بجدران في كافة الجبهات لمنع تسلل ووصول اللاجئين أو "الإرهابيين" وهو ما تم تنفيذه على الحدود المصرية.
اقرأ أيضاً: جنرالات إسرائيل... تجّار سلاحٍ يغذّي حروب العالم
ويلفت هرئيل في سياق السياج الحدودي مع الأردن إلى أنه يعكس أيضاً الهاجس الإسرائيلي من سيناريو "انهيار المملكة الأردنية وسقوط النظام فيها" بحسب مصطلحاته، تحت ضربات ما يحدث في العالم العربي، وهو ما يفسر الاستثمار الإسرائيلي الهائل على مرّ السنوات في التنسيق الأمني مع الأردن. ومع أن أحداً لا يعترف بهذه المخاوف صراحة، على الرغم من زلات لسان وزراء وسياسيين تأتي الاعتذارات سريعاً عنها، ألا أن الجهات الأمنية ترى أن على تل أبيب أن تستعد لسيناريوهات كهذه، في ظل التوافق الذي ظهر بين قراءة نتنياهو واستراتيجية رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، الجنرال جادي أيزنكوت، كما تجلى ذلك في وثيقة الاستراتيجية المقبلة للجيش التي نشرت قبل شهر، وخطة العمل للسنوات الخمس المقبلة التي تحمل اسم "خطة جدعون". خطة تقوم أساساً على خفض عدد وحدات الاحتياط، مقابل الإبقاء على حالة تدريب وجهوزية دائمة للفرق العسكرية في المناطق الحدودية، تحديداً على الحدود مع سورية، وإقامة وحدات دوريات على امتداد الحدود مع الأردن. وترى الأوساط الأمنية أن هذه المعادلة أثبتت نجاعتها على طول السياج الحدودي مع مصر.
وفيما ينتقل عاموس هرئيل في هذه النقطة إلى التركيز على الدور الذي يوليه الجيش في وحدات الدوريات على امتداد الحدود إلى المجندات من النساء، خاصة بعد تدخل المحكمة العليا بوجوب دمج المجندات في الوحدات القتالية وعلى الحدود، وإيجابيات ذلك، إلا أنه يشدد على أن الحديث يدور في نهاية المطاف عن 3 في المئة من مجمل الجنديات في الجيش الإسرائيلي. وفيما تعتمد الحدود التي يحاول الاحتلال ترسيمها في الجبهتين الشرقية والجنوبية على "الحدود الدولية" أو بالأحرى "خطوط وقف إطلاق النار بعد عام 49"، وما بات يعرف بـ"الخط الأخضر"، وكذلك في حالة الحدود مع لبنان، إلا أن السياج الحدودي الجديد مع سورية، يقوم عملياً على تكريس خطوط الاحتلال، من دون الرجوع إلى حدود ما قبل الرابع من يونيو 1967 التي يرفضها نتنياهو. أما على الصعيد الفلسطيني، فإن المسار الذي وضعه الاحتلال لجدار الفصل العنصري، فهو يبقي على جيوب المستوطنات وعلى مناطق واسعة من المنطقة "ج"، التي لا تزال تخضع للسيادة الأمنية الإسرائيلية وفق اتفاقيات أوسلو، مع دفع مسار الجدار الفاصل شرقاً ليترك غربيّه مساحات واسعة، من دون أن يكون بمقدور الجانب الفلسطيني حالياً، أن يرفض هذه الحقائق على الأرض. إلا أن الاحتلال يصر على أن يبقى له في اتفاقية الحل الدائم، انتشار عسكري يمنع أي وجود لجيش "ثالث" فلسطيني بين النهر والبحر.
اقرأ أيضاً: الجاسوس بولارد لم يكن "وفيّاً في خدماته لإسرائيل"