إسرائيل إذ تعيد "تمثيل" معركة حطين
لا يفصح الموقع الإلكتروني الإسرائيلي ( http://www.al-masdar.net/)، والذي نشر، أخيراً، تغطية صحافية مصورة لإعادة إحياء ذكرى معركة حطين، عن السبب الحقيقي وراء هذا "التقليد" الإسرائيلي السنوي، خصوصاً وأنه من غير "الممتع" أن يرتدي أحدهم معدات قتالية، من دروع وخوذ وغيرها، تزن نحو عشرين كيلو غراماً، تحت شمس يوليو/تموز حيث تصل الحرارة إلى ثلاثين درجة مئوية!
يصف الموقع الحدث، "اشتملت إعادة التمثيل نفسها على رحلة من يومين. يقوم جزء من المشاركين بالمعركة وهم يمتطون الخيول، والجزء الأكبر مشياً على الأقدام، في أعقاب المسار الأصلي الذي سار به الصليبيّون يومئذ في 3 و4 يوليو/ تموز عام 1187. خرجوا من ينابيع صفورية باتجاه طبريّا، حتى وصلوا إلى حطّين، جبل صغير مع نتوأين، وهناك جرت المعركة التاريخية. على مدى العملية كلها، بدءاً بمسار الرحلة، مروراً بتجهيز المعدّات، الملابس، الأحذية، الإكسسوارات والأسلحة، يكون الجميع أوفياء لروح القرن الثاني عشر، ويجري التنفيذ في الميدان على أساس الدراسات التاريخية لتلك الفترة"!
والحقيقة أن الأمر لا يتعلق بـ"الوفاء لروح القرن الثاني عشر"، بقدر ما تشكل معركة حطين هاجساً يقض مضاجع الإسرائيليين، على أكثر من صعيد، ولعل حكاية الجنرال الإسرائيلي شلومو بلاو، تختزل في رمزيتها الكيفية التي تنظر فيها إسرائيل إلى هذه المعركة، الذي يقول عنه الدكتور صالح النعامي، أنه خدم في الجيش الإسرائيلي 35 عاماً لم يأخذ خلالها إجازة ولو يوماً، وكان من أكثر الصهاينة تطرفاً، ويعتبره بن غوريون مفخرة للجيش الإسرائيلي، وكتب عنه أرييل شارون قائلاً إنه "آلة حرب متحركة تتجسد في جسم بشري"، وسيرته تدرس حالياً للطلاب في المدارس العبرية، فماذا حل بهذا الجنرال الأسطوري في السنوات الأخيرة من حياته، حيث عاش في كآبة، قيل أنها قضت عليه؟ سر كآبة الجنرال "المعجزة، كما يقول النعامي، يبدو في مقالة نشرها الكاتب الإسرائيلي، حاييم هنغبي، في صحيفة "معاريف" في ذكرى وفاته، حيث كشف فيها آفاقاً أخرى في شخصية باوم، حيث يقول إنه لكثرة ما سمع من إطراء على باوم، قرر التعرف عليه، بعد خروجه من الجيش، للتعرف على الدوافع الكامنة وراء "معنوياته العالية، وشعوره المطلق بعدالة ما يقوم به"، ويضيف هنغبي أنه عندما توجه إلى بلاو، في شقته، وجد إنساناً آخر غير الذي سمع عنه، وجد شخصاً تملكه الخوف، واستولى عليه الهلع واستبد به القلق، وعندما سأله عن سر دافعيته الكبيرة لقتال العرب وحرمان نفسه، في سبيل ذلك، من الراحة عشرات السنين، إذا ببلاو يصمت هنيهة، ثم يقوم من مجلسه، ويحضر ملفاً كبيراً يأخذ بتقليب صفحاته، ثم يقدمه لهنغبي، ويقول، "هل سمعت عن الحروب الصليبية، هل سمعت عن معركة حطين، هل سمعت عن شخص يدعى صلاح الدين". يقول هنغبي "عندها قلت له مستنكراً: لكن العالم العربي، الآن، في أقصى مستويات الضعف في كل المجالات"، فيضحك بلاو ساخراً، ويقول: "كانت أوضاع المسلمين قبل معركة حطين تماثل من حيث موازين القوى أوضاع العرب حالياً "، وقال بلاو: "أكثر ما أزعجه من دراسة تاريخ الحروب الصليبية، قدرة صلاح الدين على بعث نهضة العرب من جديد، وتنظيم صفوف قواته، بعكس المنطق الذي تمليه موازين القوى العسكرية".
ويواصل بلاو شرح مخاوفه كما رواها هنغبي، "منذ عشرين عاماً، وأنا أحاول رصد الأسباب التي جعلت المسلمين يحققون هذا النصر الأسطوري، وفق منطق العقل والتحليل العسكري، وما جعلني أتعلق بالحرب حرصي على أن أقوم بكل شيء، من أجل عدم تهيئة الظروف لمولد صلاح الدين الأيوبي من جديد. أعيش في خوف دائم على المشروع الصهيوني"!
بعد خمسة عشر عاماً من قيام إسرائيل على أرض فلسطين، تنادى علماء ومؤرخون إسرائيليون كثر، إلى تنظيم ورشة عمل في الجامعة العبرية، لدراسة عوامل سقوط دولة الفرنجة في القدس، ترأسها جوزيف براور، صاحب كتاب "المملكة اللاتينية في القدس"، (مجلدان كبيران نشرا عام 1963) وخلصت لجنة علمية تم تكليفها بدراسة تراثنا الإسلامي إلى جملة نتائج أودعتها كتاب "الإسلام والصليبيات"، وهذا جزء يسير من دراسات إسرائيلية اهتمت بالحروب الصليبية، حيث غدت الجامعة العبرية في القدس محط أنظار الباحثين في هذا الموضوع.
ويبدو أن العدوان على غزة، وما حققته المقاومة الفلسطينية من إنجاز، يعيد بعث الأمل في بداية تحول جذري في تاريخ المنطقة، يشبه التحول الذي بدأ الظهور مع حقبة صلاح الدين، على الرغم من محاولات مستميتة تبذلها قوى الثورة المضادة، لمنع المقاومة من تحويل منجزها العسكري إلى منجز سياسي، وفي وسع المرء إجراء مقارنة سريعة، بين عوامل انهيار ممالك الفرنجة، وبداية ظهور تصدع يشي بحقبةٍ تطول أو تقصر، وتؤشر على هرم المشروع الصهيوني في فلسطين. ويكاد الباحثون يتفقون على أن انهيار ممالك الفرنجة يعود إلى ثلاثة عوامل.
أولها ضعف الفكرة، تراجع الفكرة الصليبية وقدرة المجتمع على تحمل تبعاتها، ويقابلها في إسرائيل تآكل الفكرة الصهيونية، بعد رحيل "الآباء المؤسسين"، حيث تحول المجتمع اليهودي في فلسطين المحتلة إلى تجمعاتٍ بشرية باحثة عن الرفاه والمتعة، والحياة الرغدة، وتراجعت الأيديولوجيا التي حركت همم مؤسسي الكيان، وخصوصاً من يسمون "جيل الصابرا"، وهم الجيل الصهيوني الأول، وسموا كذلك إلى قدرتهم على مسك "كوز الصبر" بأيديهم، مع ما فيه من أشواك، دلالة على الخشونة!
الثاني انهيار الجسر، والمعنى هنا حين أدارت أوروبا للممالك الصليبية ظهرها، وكفت عن إمدادها بالمساعدات، بعد أن شغلتها مشاغلها الخاصة، وقل اهتمامها بالمشروع الصليبي، ويقابله في إسرائيل بداية ارتخاء الاهتمام الأوروبي والأميركي بالمشروع الصهيوني في فلسطين، بعد أن انهارت صورة "اليهودي الضحية"، وتحولت إلى الصهيوني القاتل، كما أن نظرية أن إسرائيل تشكل ذخراً إستراتيجياً للغرب، ورأس حربة للاستعمار الغربي، لم يعد لها ذلك البريق، وفقدت كثيراً من أهميتها، بسبب وجود أنظمةٍ عربية تحرس المصالح الغربية أكثر من إسرائيل، وهنا، بدأ الحديث في إسرائيل عما يسمونه (نزع الشرعية الدولية عن إسرائيل)، باعتبارها مشروعاً استعمارياً عنصرياً، بعد أن تهشمت صورة "واحة الديمقراطية"، أو الفيلا وسط الغابة، على حد تعبير إيهود باراك!
ثالث العوامل، التغير في البيئة المحيطة، في حالة الحروب الصليبية برزت حالة ممانعة ومقاومة للمشروع الصليبي، مثله آل زنكي وعدد من قادة المسلمين، في مقدمتهم صلاح الدين الأيوبي، ومعه جماهير من أهل مصر وبلاد الشام، وبقية بلاد الأمة. وفي الحالة الإسرائيلية، هناك ثورات الربيع العربي، وحالة الوعي الجماهيري بعد انتصار المقاومة الفلسطينية في غزة، مع ما صاحب الانتصار من محاولات مريرة لتشويهه وإفراغه من محتواه، وهدره في المعترك السياسي، لكي لا تكون له أي ثمار ذات مغزى!
كل ما تقدم يجيب عن سؤال عن السر وراء إعادة "تمثيل" معركة حطين في إسرائيل، وبشكل سنوي، وكأنهم لا يريدون أن ينسوا تلك المعركة، كي لا تجد مملكة إسرائيل مصير ممالك الفرنجة. وللإيضاح، يعرف الموقع الإلكتروني "المصدر" نفسه بأنه إخباري يعمل من إسرائيل. ويتألف طاقمه المؤسس من إسرائيليين، يهود وعرب، ويعنى بـ"المساهمة في خلق حوار متوازن حول إسرائيل والمسائل الإقليمية في الشرق الأوسط".