14 نوفمبر 2024
إسبانيا... حربُ الذاكرة
عاد ملف الذاكرة إلى الواجهة في إسبانيا، بعد أن أقدمت حكومة بيدرو سانشيز الاشتراكية على نقل رفات الدكتاتور الراحل فرانشيسكو فرانكو من مقبرة وادي الشهداء، القريبة من مدريد، إلى إحدى المقابر العادية في العاصمة. وقد ظل هذا الملف، طوال الأشهر المنصرمة، محط استقطاب بين الإسبان، ففي وقت يرى بعضهم أن من شأن نقل رفات فرانكو أن ينكأ جروحا تاريخية غائرة، تبدو إسبانيا في غنى عنها، يرى آخرون أن ذلك يمثل خطوة ضرورية، على اعتبار أن ''وادي الشهداء'' التي دشنها فرانكو سنة 1959 ترمز لانتصار قواته على خصومها الجمهوريين، فضلا عن أنها بُنيت بسواعد المعتقلين السياسيين الذين استغلهم نظامه في ذلك.
وعلى الرغم من نجاحها في معركة التحول الديمقراطي، إلا أن النخب الإسبانية عجزت عن التوصل إلى تسوية بشأن الذاكرة التاريخية، مكتفيةً بما تسميه بعض أدبيات الذاكرة ميثاق النسيان، والذي تأسّس على الاستعاضة عن الخوض في الماضي المؤلم بالنظر إلى المستقبل. ولكن هذه التسوية ما كان ممكنا أن تستمر في ظل إصرار الإسبان على معرفة حقيقة ما جرى خلال الحرب الأهلية (1936-1939) وفترة حكم فرانكو (1939-1975) التي شهدت انتهاكات جسيمة بحق المعارضة، فكان إصدار قانون الذاكرة التاريخية (2007) في عهد حكومة خوسيه لويس ثاباتيرو الاشتراكية، والذي توخّى الاعتراف بضحايا الحرب، جمهوريين وفرنكويين، وتقديمَ المساعدة لبعض ضحايا نظام فرانكو الأحياء، في حين ظلت عالقةً قضايا أخرى، أبرزها التعرّف على المقابر الجماعية التي دُفن فيها عشرات آلاف من الجمهوريين في أثناء الحرب الأهلية، بسبب المقاومة التي أبدتها قوى اليمين في غير موقع داخل الدولة الإسبانية.
ويُعدُّ نقلُ رفات فرانكو من مقبرة وادي الشهداء حلقةً أخرى في مسلسل صراع لا يتوقف حول تأويل الذاكرة، وهو صراعٌ يبدو أن النظام الإسباني بات يجد صعوبةً في الاستمرار في تحمل تكاليفه المختلفة، في ضوء تجدّد الأسئلة بشأن مصير آلاف الجثث الموجودة في هذه المقبرة، والمطالبةِ بتحويل الأخيرة إلى متحف أو مركز ذاكرة يليق بجثث الضحايا الذين يرقدون هناك منذ عشرات السنين.
يتعلق الأمر بتقاطبٍ مجتمعيٍّ حاد بشأن استعادة وقائع الحرب الأهلية وتأويلها، فهناك حاجة ماسّة لإدارةٍ متوازنةٍ ومتأنيةٍ لهذا التقاطب، تفضي إلى توافق اليمين واليسار على سردية تاريخية تحظى بتبنّي المجتمع الإسباني بمختلف فئاته، بحيث يُصبح ممكنا إنجاز مصالحةٍ بين وجهيْ الذاكرة الإسبانية، تتيح تجاوزَ تناقضهما المأساوي؛ وجه الشاعر الشهير فيديريكو غارسيا لوركا الذي اغتيل عشية اندلاع الحرب على يد إحدى المليشيات الموالية للفاشية، ووجه كالْبو سوطيلو، السياسي اليميني المعروف الذي اغتيل، كذلك، عشية اندلاع الحرب على يد إحدى مليشيات اليسار المسلح، في حدثٍ يعتبره مؤرخون النقطة التي أفاضت الكأس، ودفعت فرانكو إلى القيام بانقلابه العسكري المعلوم على الجمهورية الثانية.
ضمن هذا السياق، بدأت تظهر، في الأعوام الأخيرة، كتابات تحاول استعادة الذاكرة الإسبانية بشكل متوازن، من قبيل كتاب الصحافي ثيسار فيدال ''سرايا مدريد: الكشف عن سجون الجمهوريين''، والذي تطرق فيه إلى بعض ما يوثق ما اقترفه اليسار الجمهوري بحق خصومه من اليمين الإسباني. وفي الوسع القول إن هذه الكتابات، على قلتها، بدأت تفتح الباب أمام تشكّل سردية يمينية مضادّة للسردية اليسارية ذائعة الانتشار، تجتهد في مواقع البحث التاريخي للكشف عما تعتبره انتهاكاتٍ وأعمالَ عنف ارتكبها الجمهوريون بحق خصومهم.
أمام هذا الوضع، يرى بعضهم أن الحاجة أضحت ملحّة للتوافق على سردية متوازنة، تنبني على ضرورة النظر، بموضوعية، إلى الحرب الأهلية وفترة الحكم الفرنكوي، بما يضمن حق الأجيال الحالية في ذاكرةٍ تاريخيةٍ محايدة، لا مجال فيها للانتقام والتشفّي، تُنصف جميع الضحايا، وترد الاعتبار إليهم، بصرف النظر عن انتمائهم الأيديولوجي والسياسي.
من المتوقع أن يُفضي نقل رفات فرانكو من ''وادي الشهداء'' إلى تجدّد أسئلة الذاكرة الإسبانية وقضاياها، ما قد يعني، بشكل أو بآخر، أن الوقت قد حان ليجترح الإسبان تجربتهم الخاصة في العدالة الانتقالية، ويضيفوا لبنةً أساسيةً ظلت منظومة التحوّل الديمقراطي بحاجةٍ إليها طوال العقود الماضية.
ويُعدُّ نقلُ رفات فرانكو من مقبرة وادي الشهداء حلقةً أخرى في مسلسل صراع لا يتوقف حول تأويل الذاكرة، وهو صراعٌ يبدو أن النظام الإسباني بات يجد صعوبةً في الاستمرار في تحمل تكاليفه المختلفة، في ضوء تجدّد الأسئلة بشأن مصير آلاف الجثث الموجودة في هذه المقبرة، والمطالبةِ بتحويل الأخيرة إلى متحف أو مركز ذاكرة يليق بجثث الضحايا الذين يرقدون هناك منذ عشرات السنين.
يتعلق الأمر بتقاطبٍ مجتمعيٍّ حاد بشأن استعادة وقائع الحرب الأهلية وتأويلها، فهناك حاجة ماسّة لإدارةٍ متوازنةٍ ومتأنيةٍ لهذا التقاطب، تفضي إلى توافق اليمين واليسار على سردية تاريخية تحظى بتبنّي المجتمع الإسباني بمختلف فئاته، بحيث يُصبح ممكنا إنجاز مصالحةٍ بين وجهيْ الذاكرة الإسبانية، تتيح تجاوزَ تناقضهما المأساوي؛ وجه الشاعر الشهير فيديريكو غارسيا لوركا الذي اغتيل عشية اندلاع الحرب على يد إحدى المليشيات الموالية للفاشية، ووجه كالْبو سوطيلو، السياسي اليميني المعروف الذي اغتيل، كذلك، عشية اندلاع الحرب على يد إحدى مليشيات اليسار المسلح، في حدثٍ يعتبره مؤرخون النقطة التي أفاضت الكأس، ودفعت فرانكو إلى القيام بانقلابه العسكري المعلوم على الجمهورية الثانية.
ضمن هذا السياق، بدأت تظهر، في الأعوام الأخيرة، كتابات تحاول استعادة الذاكرة الإسبانية بشكل متوازن، من قبيل كتاب الصحافي ثيسار فيدال ''سرايا مدريد: الكشف عن سجون الجمهوريين''، والذي تطرق فيه إلى بعض ما يوثق ما اقترفه اليسار الجمهوري بحق خصومه من اليمين الإسباني. وفي الوسع القول إن هذه الكتابات، على قلتها، بدأت تفتح الباب أمام تشكّل سردية يمينية مضادّة للسردية اليسارية ذائعة الانتشار، تجتهد في مواقع البحث التاريخي للكشف عما تعتبره انتهاكاتٍ وأعمالَ عنف ارتكبها الجمهوريون بحق خصومهم.
أمام هذا الوضع، يرى بعضهم أن الحاجة أضحت ملحّة للتوافق على سردية متوازنة، تنبني على ضرورة النظر، بموضوعية، إلى الحرب الأهلية وفترة الحكم الفرنكوي، بما يضمن حق الأجيال الحالية في ذاكرةٍ تاريخيةٍ محايدة، لا مجال فيها للانتقام والتشفّي، تُنصف جميع الضحايا، وترد الاعتبار إليهم، بصرف النظر عن انتمائهم الأيديولوجي والسياسي.
من المتوقع أن يُفضي نقل رفات فرانكو من ''وادي الشهداء'' إلى تجدّد أسئلة الذاكرة الإسبانية وقضاياها، ما قد يعني، بشكل أو بآخر، أن الوقت قد حان ليجترح الإسبان تجربتهم الخاصة في العدالة الانتقالية، ويضيفوا لبنةً أساسيةً ظلت منظومة التحوّل الديمقراطي بحاجةٍ إليها طوال العقود الماضية.