ما ذهب إليه عثمان، يتفق معه الخبير العسكري في مركز النهرين للدراسات والأبحاث الاستراتيجية هشام الهاشمي، إذ إن طريقة استخدام قنابل الغاز المسيل للدموع، إضافة إلى أنواع الأسلحة التي استُهدف بها المتظاهرون في بغداد، تعد مؤشرا واضحا على هدف القتل العمد، نظرا لعدم تناسبها مع طرق فض الاحتجاجات كما يوضح، وهو ما تؤكده شهادات ستة من المتظاهرين والمسعفين الموجودين في ساحة التحرير ببغداد.
وألقت قوات الأمن القنابل المسيلة للدموع في بداية الاحتجاجات السلمية لتفريق المتظاهرين ولم يكن تأثيرها قاتلا، إذ كانت تتسبب باختناق المحتجين على أقصى تقدير، لكن الوضع تغير عقب أسبوعين من استمرار المظاهرات، إذ تغيرت طريقة إطلاق القنابل وصارت ترمى بشكل مباشر باتجاه المتظاهرين من أجل قتلهم، كما يروي المتظاهران عباس الكوخي، وعلاء علي.
إرهاب المتظاهرين
قُتل حيدر علاوي العامري (17 عاماً)، في الثامن والعشرين من أكتوبر الماضي، بسبب "مقذوف دخاني في الرأس" كما جاء في شهادة وفاته التي حصل "العربي الجديد" على نسخة منها.
حيدر الذي يصنف طفلا بحسب اتفاقية حقوق الطفل الدولية الصادرة عام 1989، أصر على المشاركة في الاحتجاجات بالعاصمة، كما يقول والده علاوي مضيفا: "قال لي عيب عليّ أن أبقى في المنزل والشباب يتظاهرون".
ودأب حيدر على مساعدة أصدقائه في التخلص من آثار الغاز المسيل للدموع على طرف جسر الجمهورية في ساحة التحرير وسط بغداد، إذ كان يُحضر الخميرة وعبوات المشروبات والمياه لهم، وبينما كان يقوم بمهمته المعتادة قُتل، في الوقت الذي لم يكن يفصل بينه وبين قوات مكافحة الشغب سوى 100 متر، وعندها ألقيت قنبلة غاز صوب رأسه فاخترقته، بحسب ما نقل صديق لحيدر روى الواقعة لوالده.
ويعد الطفل حيدر واحدا من بين 460 محتجا قُتلوا منذ بدء المظاهرات وحتى السادس من ديسمبر/كانون الأول الجاري، فيما بلغ إجمالي عدد المصابين وفقاً لمفوضية حقوق الإنسان العراقية عشرون ألفا، من بينهم 16 ضحية، قتلوا بسبب تعرضهم لإصابات في الرأس والصدر بقنابل الغاز المسيل للدموع، وفق ما وثقه تقرير بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (اليونامي) عن التظاهرات والصادر في 5 نوفمبر/تشرين الثاني، إضافة إلى صور حصل عليها "العربي الجديد" من مستشفى الجملة العصبية الحكومي في بغداد.
الهدف القتل
تعد المسافات التي أطلقت منها القنابل المسيلة للدموع دليلا على قصد الموت، فالأصل أن تطلق تلك النوعية من القنابل من على بُعد 250 متراً على الأقل، وكذلك إلى الأعلى (في الجو) حتى لا تصيب أحداً بشكل مباشر، وتكون قد بردت عندما تسقط أرضاً، وفق إفادة عميد متقاعد من الجيش العراقي رفض ذكر اسمه (للحفاظ على سلامته وأمنه الشخصي).
ويعكس استمرار قوات الأمن العراقية في قتل المتظاهرين هدف تخويفهم وإرهابهم إلى أقصى درجة، كما يكشف عنصر في القوات الأمنية العراقية لـ "العربي الجديد"، مؤكداً أن أعداداً كبيرة من عناصر الأمن التي كانت تطلق القنابل لم تكن مدربة على استخدامها مسبقاً ولم يكن هناك أي تعليمات بشأن طريقة استخدامها، وتابع موضحا: "وقتها لم تكن القيادة أصدرت تعليمات بشأن إيقاف استهداف المتظاهرين بالقنابل".
طرق متنوعة
وقعت أكثرعمليات قتل المتظاهرين قرب جسري السنك والجمهورية وسط العاصمة، إذ كان المتظاهرون تحت الجسرين بينما تمركزت قوات مكافحة الشغب في الأعلى، كما يروي الكوخي، مؤكداً أنه "بعد الخامس والعشرين من أكتوبر بدأت القوات بإطلاق قنابل علينا لم نتعامل معها سابقاً، كانت تشل الحركة، ونكاد نموت بمجرد استنشاق دخانها".
وتقول مسعفة في إحدى الفرق الطبية (رفضت ذكر اسمها)، أن القوات الموجودة في أعلى الجسرين كانت تلقي القنابل صوب المحتجين والمسعفين، بينما يتهكمون عليهم ويسخرون منهم، كما كانت زوارق الشرطة النهرية تُساعدهم في الوصول إلى المتظاهرين عبر النهر لإلقاء القنابل ثم يعودون".
إضافة إلى ما قاله الكوخي، يقول شهود العيان الذين وثق معد التحقيق إفاداتهم في ساحة التحرير، أن قوات مكافحة الشغب كانت تستخدم عدة أنواع من القنابل، وكلها كانت تطلق بشكل أفقي ومباشر باتجاه المتظاهرين، وتؤكد المسعفة نورس الجابري استناداً إلى ما شاهدته أن القنابل المستخدمة ضد المحتجين ثلاثة أنواع، الأولى صوتية، وكانت شظاياها وقت الانفجار تصيب المتظاهرين القريبين منها، بالإضافة إلى القنابل المسيلة للدموع، أما النوع الثالث فيحتوي على غازات تؤدي إلى تشنج الجسد بالكامل.
وألقيت على المتظاهرين قنابل منتهية الصلاحية منذ أعوام 2013، 2014، 2015، ما جعلها أكثر سُميّة وأكثر صعوبة في العلاج، كون المادة الفعالة سامة، وفقاً للمسعفة إيناس موسى، والتي توضح لـ "العربي الجديد" أن الإصابات التي رأتها استهدفت الرأس والصدر والبطن والأقدام، وبعض القنابل تسببت بتهتّك أعضاء الجسد، قائلة: "أمسكت بمعدة متظاهر وطحالٍ لآخر، ورأيت كلياتٍ عديدة متمزقة، و كان آخر ما رأيت مُخ صفاء السراي (ناشط عراقي ولد عام 1993 وقتل بقنبلة غاز) خارج جسده".
ما أفاد به المتظاهرون معد التحقيق، تؤكده عضو مفوضية حقوق الإنسان العراقية الدكتورة أنس العزاوي، قائلة: "القنابل التي استخدمت ضد المحتجين تحتوي على غازات تشل الحركة، وليست من ضمن القنابل المصنفة لفض التظاهرات السلمية، كما أن بعضها يمكن اعتباره ضمن الأسلحة المحرم استخدامها ضد المدنيين دولياً بسبب تركيبها ووزن العبوة".
ولم يقتصر القتل على قنابل الغاز المسيل للدموع، إذ جرى استخدام الذخيرة الحية أيضا في العاصمة ومحافظات أخرى في الجنوب، وفق ما وثقته منظمة هيومان رايتس ووتش في تقريرها الصادر في 8 نوفمبر 2019 بعنوان "قنابل الغاز المسيل للدموع تقتل المتظاهرين"، وبالرغم من صدور أوامر بوقف استخدام الذخيرة الحية من رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، فإن قوات الأمن واصلت استخدام القوة المفرطة ضد المحتجين، وفق تقرير المنظمة الحقوقية الصادر في 4 ديسمبر بعنوان "مخاوف حول قُدرة القيادة على السيطرة".
مصدر القنابل
تعرض المتظاهرون العراقيون للاستهداف بقنابل غاز مسيل للدموع من نوع M651، وقنابل دخان M713، حصل عليها العراق من منظمة الصناعات الدفاعية الإيرانية، إضافة إلى قنابل دخانية من شركة أرسنال البلغارية، وقنابل من عيار 40 مم، من نوع LV CS، التي من المحتمل أن تكون من تصنيع شركة Arsenal البلغارية، وكذلك قنابل M99s الصربية، التي صنعتها شركة Balkan Novotech، وفقا لما جاء في تقرير منظمة العفو الدولية الصادر في 31 أكتوبر/تشرين الأول من عام 2019.
وتهاجم بعض تلك القنابل الجهاز العصبي وتسبب شللاً لمدة نصف ساعة أو أكثر، كما يوضح طبيب في وزارة الصحة العراقية اشترط عدم الكشف عن هويته للحديث قائلا لـ "العربي الجديد": "تتكون الغازات المسيلة للدموع من جزيئات صلبة متناهية الصغر، تتحول عند إطلاقها في الجو إلى غازات، وتتسبب بإصابة مستنشقيها بأعراض مختلفة، تتراوح ما بين دموع العينين والسعال واحتراق الرئتين، وتؤدي أحيانا للإصابة بحروق أو بالعمى المؤقت، وتقود في حالات نادرة إلى تقيؤ متواصل يفضي إلى الموت"، لكن مصطفى جبار (19 عاماً) لم يتعرض للأعراض السابقة، وإنما اخترق "مقذوف دخاني رأسه"، وتسبب له بكسور وتمزقات ونزيف ما أدى إلى موته بحسب ما ذكر في شهادة وفاته، بعدما ألقت قوات مكافحة الشغب القنبلة باتجاهه مباشرة لدى وجوده عند طرف جسر الجمهورية الذي يربط بين ساحة التحرير والمنطقة الخضراء الحكومية، في التاسع والعشرين من أكتوبرالماضي، كما روى والده لـ"العربي الجديد".