إرهابيون في المتحف

21 مارس 2015

تونسيون يتظاهرون ضد الإرهاب (19مارس/2015/Getty)

+ الخط -

يعدّ المتحف الأثري في باردو في تونس من أعرق المتاحف وأشهرها في منطقة المغرب العربي، ويقصده ملايين الزوّار سنوياً، من كل حدب وصوب من داخل تونس وخارجها، يرومون اكتشاف تاريخ تونس العريق، واستجلاء معالم الإبداع الفني في اللوحات الفسيفسائية الرائعة التي يزخر بها المتحف، والتي تخبر عن حضارات مختلفة، وثقافات متنوعة، تعاقبت على حوض المتوسط. وتعتبر مدينة باردو، التي تبعد مسافة أربعة أميال عن العاصمة، هبة المتحف، فهو من علاماتها الفارقة، ومن صورها الرائقة، حتى أنها به تشتهر وتُعرف. ويتصدر متحف باردو المرتبة الثانية عالمياً لما يحتويه من لوحات فسيفسائية رومانية عديدة، راسخة في القدم، ولا يتقدم عليه في هذا المضمار سوى متحف فسيفساء "زيوغما" في تركيا. وتعود آلاف اللوحات الفنية الرومانية الأخاذة، الموجودة في متحف باردو إلى فترة تمتد من القرن الثاني قبل الميلاد إلى ما بعد القرن السادس للميلاد. ومن أروع اللوحات الفسيفسائية فيه نذكر لوحة الشاعر فيرجيل الذي تحيط به ربات الفن، ولوحة الإله أبولو، وفسيفساء انتصار الإله نبتون، وغير ذلك من الإبداعات الفنية كثير.

والهجوم على المتحف سابقة خطيرة في تاريخ تونس الحديث، وهي حمالة دلالات، فللمكان رمزيته وقدسيته عند عموم التونسيين، فهو يختزن ذاكرتهم الحضارية، ورصيدهم الثقافي الثرّ، ويُعبّر عن هويتهم المتوسطية العريقة، وعن واقع الانفتاح المخصب، والتثاقف المفيد الذي عاشته تونس قروناً، حتى ظلت قِبلة للتعايش، وأرضاً للتواصل والتسامح على مرّ الزمان. والحقيقة أن ضحايا التطرف وأيدي الإرهاب، إذ تستهدف هذا المعلم الأثري، إنما تروم ضرب البلاد في مركز من مراكز سيادتها، ومعلم من معالم عزّتها وامتيازها الحضاري، والمراد تنفير الناس من زيارة تونس، واكتشاف تاريخها الروماني التليد المفعم بالاختلاف، والتنوع، والتفنن، والتعدد، وهو تاريخ لا يعترف به الإرهابي، بل هو ينقضه، ويروم محوه، ويعتبره بدعة، وتاريخ كفر وضلالة، ومِيراث جاهلية، وهو إذ يقتل من يقتل، يرى نفسه متعبّداً بمن يقتل، لأنه يعدّ المتحف مكاناً وثنياً، ويعتبر الزائرين من الفرنجة الكفرة، أو من العرب المبتدعة، أو من التونسيين الذين غلب عليهم الهوى. والحال أن الإرهابي لا يعلم خافيات النفوس، ولا يدرك مدى تواصل المقتول مع ربّه. والإرهابي، ههنا، يبدو وصيّاً على الله وعلى الخلق، عالماً بما تخ
فيه الأفئدة، وقوياً على الناس بقوة "الكلاش"، لا بقوة العقل لأن عقله مدموغ بالتمام والكمال، حتى غدا خارج الخدمة. بل هو عقل آحادي، إقصائي بامتياز، لا يقبل لغة الحوار والتفاوض. بل يحتكم إلى لغة الزناد لحل ما يراه مشكلة، أو مظلمة، أو للاحتجاج على ما يراه لا يروق له.

والمتطرف، من منظور نفسي، شخصية انفعالية، يحركها الوجدان، والعزّة بالنفس، والتعصب للمذهب الذي يصبح عقيدة لا تحتمل التعديل، أو التكييف، أو الجدل. والمتطرف يبلغ به الغلو مبلغه، فيرى نفسه يمتلك الحقيقة المطلقة، ويرى جماعته الفرقة الناجية، ويرى المجتمع في جاهلية. أما هو وأشياعه فعلى حق، وعلى هداية في رأيه. وعدم قبول تونس شعباً، وتاريخاً، وثقافة، ظاهرة الغلو والتطرف، وميلها إلى الوسطية والاعتدال، واختيارها الانفتاح والتعدد والدمقرطة، أمر لا يروق لمتطرفين من داخل البلاد وخارجها، فتراهم يتحدثون عن "غزوة تونس"، وعن "تونس السليبة"، ويُعبرون عن توقهم إلى فرض الفوضى وإشاعة الترهيب في نفوس الناس، في محاولة يائسة للتأسيس للذات عبر تقويض الآخرين. ومع أن الإرهابي شخصية مركبة، تقتضي الدراسة والفهم، والتفهم، والوعي بالأسباب الذاتية والموضوعية التي أسهمت في إنتاجها، والعمل على إعادة بنائها عقليّاً، وسلوكيّاً ونفسيّاً، فإن إقدام المتطرفين على قتل المدنيين في متحف باردو هو إعلان عن تحويل تونس إلى "سوق جهاد"، وإخبار ببدء النفير نحو الخضراء لاقتلاع ثورتها، ومصادرة فرحتها، والحجر على حريتها، وتعطيل مسار الانتقال الديمقراطي فيها.

والواقع أن بلوغ المتطرفين وأعوانهم هذا المطمح أمر بعيد، لأن وحدة الشعب التونسي وحسّه المدني، ووقوفه صفاً واحداً في إدانة الإرهاب، وفي مواجهة الأزمات، يخبر بأن هذه البضاعة الدخيلة لن تجد لها سوقاً نافقة داخل الاجتماع التونسي، ولن تجد لها حاضنة شعبية واسعة. يضاف إلى ذلك أن المتأمل في تاريخ تونس، قديماً وحديثاً، يتبين أن التونسيين قد خبروا النوائب، والغوائل، والمحن، وواجهوا الغزاة، والعتاة، والجبابرة، وما كسرت إرادتهم. بل كانوا يتحدون المأساة، ويبدعون، في كل مرة، كينونتهم الجديدة، فتراهم ينتفضون من الرماد، في مواجهة أي خطر يتهدّد وحدتهم ومصيرهم. ويكفي ضحايا التطرف أن يعلموا أن تونس صنعت فن الثورة في تاريخ العرب المعاصر، وأزاحت أول ديكتاتور عربي من دفة الحكم، وصاغت أول دستور ديمقراطي توافقي في تاريخ العرب، ولا عجب أن تكون الأرض التي ستنكسر فيها ماكينة (منظومة) الإرهاب الغاشمة، وإن غدا لناظره لقريب.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.