(1)
تحلُّ الساعة الثامنة صباحًا، وهي جاهزة لأن تستيقظ هذه المرّة، منذ أمد طويل كانت الثامنة صباحًا كابوسًا يوميًا، فيا لطيف الألطاف نحمد فضلك. الطريق المحفوظ أصبح يمرّ بأفكارها وليست هي التي تمر به.
غابت عنه آيات القرآن والذكر، ولم يبق غير الغرق المطوّل في أشياء لا تعرف عنها سوى أنها تصل بها في النهاية لمقصدها دون شعور بالوقت. عربة المترو التي امتلأت اليوم في مشهد نسيته منذ فترة طويلة، تضغطها كما تضغط النساء على جسدها الضئيل فتتألم بصمت؛ لا يليق به إلا أن يدير وجهه هو الآخر إلى زجاج النافذة ويتأمل في ظلام النفق والنور الخاطف في كل محطة.
(2)
الجامعة المحبّبة لسبب خفي، تدخلها لمرّة جديدة بحثًا عن سبب تضع أمامها به الأوراق وتذاكر أي شيء، تصعد درجات السلم درجتين درجتين تمامًا كما صعدتها أوّل مرة، وأمّها تشجّعها أن تصعد وحدها.
رغم ألم ساقها، لا تغير من طريقة صعودها ولا مشيتها لتوقفه. أمّها التي دفعتها دومًا أن تتحمل مسؤولية نفسها والآخرين، لم تخبرها ألا تُجهد نفسها وأنه يمكن للدرج أن ينتظر صعودها درجة درجة، كما يمكنها أن تكف عن الحلم، وأن هناك طريقة دومًا في أن تعتاد وربّما تلوي شفتها فحسب حين يعلنون عن قتيل جديد.
مرّت خمس سنوات، والوقت مناسب الآن أن تتعلّم الحبو فوق ما جرى، أن تصدّق أنها مرّت بجواره، ثم تعبر الطريق، تنتظر -على الجهة المقابلة- ما يحملها بعيدًا عن دمائهم على ناصية الشارع، ويغسل ما علق بيديها من إثم التجاوز.
(3)
الشوارع ممتلئة باللون الأحمر وصوت السيدة يفسّر "النهاردة تذكار العيال بتوع الأهلي اللي ماتوا في الاستاد". تنظر تحت قدميها هربًا من الصور، إلا أن سيدة تصعد المترو من محطة الأوبرا تجلس أمامها، ترتدى قميصًا جللته صورة "أنس الصغي" فتبدأ بالبكاء كطفلة نسيتها أمها في زحام السوق.
أربع سنوات قبل ذلك، تعود وصديقتها إلى منزلها محتفلتين بهواء البحر بإسكندرية الشتَوِي فتقول أم الصديقة أن شبابًا أصيبوا في استاد بورسعيد. في الغرفة الأخرى ترى في الصورة شبابًا يركضون لسبب لا تفهمه. وهي تحدّق في عناوين العالم الأزرق، سال الأحمر من ثيابهم حتى سقى كأس اللعبة، تسرع ترسل لكل منهم رسالة تسأله هل هو بخير؟ هل جرى له شيء؟ بالله أن يرد.
يطلع الصباح فتخرج للشارع مع رفقة، تهتف فيلتف الناس حول صوتها العالي وجسدها المختفي فى الزحام. تحاول أن تشرح لهم، أن يفهموا فتعجز عن كل شيء إلا الغضب. وتعود فتبحث في أشيائها، تخرج شارة سوداء أعطاها إياها علاء المقُتول في مذبحة ديسمبر مكتوب عليها " أنا الشهيد الحي".
تلفها حول ذراعها لا تخلعها إلا للنوم حتى راقبوا الأنفاس ومنعوا الكلام، تقول لرفقاء طريق الآلام: "قبل فبراير غير بعد فبراير، قبل بورسعيد غير بعد بورسعيد، الألتراس مش زينا مش هينسوا دمهم، ولا احنا هننسى، بس هم مع بعض".
(4)
تعرف أنها بكت اليوم ولله الحمد، فتقوم للغناء "قلناها زمان للمستبد الحرية جاية لابد". تأتي الفرصة النادرة ليرتفع صوتها مع اللحن، وتزعق بوصفه "نظام غبي"، إلا أن صوتها خرج هامسًا يقاوم الهاجس اليومي "إن أشباحًا ترتدي الأسود ستقتحم المكان حالاً وتقبض عليها مع الواقفين".
يقول الشاب على المسرح: "احنا ليه بقينا بنحضر جنازات أصحابنا بدل ما نحضر أفراحهم"، تبكي للمرة الحادية عشرة بعد المرّة الأولى التي أقسمت أنها لن تنتحب بعدها.
"خمس سنوات عجزوا فيها جميعًا أن يربطهم شيء، يجتمعون خارج جنة الميدان، يعرفون بعضهم البعض، يكتبون أرواحهم على حائط واحد".
يتسلّلون إلى عرض ما تجرأ أن يُغنّى في مشهد "الأغاني المحرّمة" فيُقبل عليه المطرودون من الجنة ليستتروا بظلام المسرح ويرتفع صوتهم "حرية".
(5)
السنوات ملأت فراغ شجارهم المستمر: "لأ مش هنسكت هنعمل حاجة فى أمل، اللى عملناه مش هيروح هدر، دمهم حامى البلد دي"، "صدّقي بقى كل حاجة خلصت، شوفيلك باب مصلحة من إللي جري واعملي حاجة لنفسك معدش فى حاجة لله وللوطن دلوقتي".
الكبير عرف كيف يمشي على جنازات أصحابه، وغياهب السجون التى غشيها، وزياراته الشهرية لمن يدفعون الضريبة عنهم، وحتى اعتراض جسده على إهماله إعاقته الجديدة.
مرّت خمس سنوات ولا زالت تؤلمه كأنها تتلقى ضربات كعوب البنادق توًا.
(7)
تتحين الفرص لتلقي رفقة قديمة وتردّد معهم "احنا كتير"، ثم تحني رأسها -فى عادة جديدة- وتهمس "هو في أمل نتجمع، في غيرنا فعلاً؟".
تسأل ثم تغلق نافذة السؤال وتنتظر أمامها، أن يفتحها أحد سواها ومعه الإجابة.