28 مايو 2017
إذ تأكل السياسة المجتمع
لا يمكن تجاهل ملاحظة كهذه: الشباب في الخليج إما "مبادرون مجتمعيون" أو "ناشطون سياسيون"، والمجالان في حالة تباين، وأحياناً تنافر، يمكن فهمه عملياً، على الرغم من أنهُ غير مُفترض نظرياً.
بالطبع، هناك نماذج أخرى من الطموحين، هناك "الفاشينستا" وهناك "رياديو الأعمال" وهناك مستثمرو اللحظة والمصادفة على أشكالهم، لكن المبادر والناشط يتمايزان عن الآخرين، بما يُفترض، في جوهر نشاطهما، من بحث عن مصالح المجتمع والعمل من أجلها. واللافت أن هذين المستويين من النشاط لا يُفترض فيهما التناقض نظرياً، بل التقاطع والعمل سوية في بعض الحالات. المبادرة الاجتماعية لا تستغني عن خط العمل السياسيّ، عندما يكون من الضروري لنجاح المبادرة اجتماعياً، أن يتم الحفاظ على قوانين معينة، أو تغيير بعضها، أو تخصيص مزيد من الأموال والدعم لبعض القضايا، فإن التعامل مع السياسي يكون ضرورياً، العمل معه أو العمل ضده، بحسب ما يقتضيه الموقف. وتنهض كثيرٌ من قضايا الناشط السياسي على أساس مجتمعي، يتعلق بانعدام العدالة أو التمييز أو تردّي جودة العيش وهضم الحقوق الأساسية. نظرياً، يفترض أن يوجد الناشط والمبادر في مواضع كثيرة، حيث يعملان معاً، أو على الأقل ألا يوجدا في حالة تناقض. لكن، في الأعوام الأخيرة، مع ملاحظة توسع اقتباس تطبيقات المبادرة ومفاهيم النشاط السياسي في الخليج، تجب أيضاً ملاحظة تباين النغمات بينهما، وصولاً، في بعض اللحظات، إلى التنافر. يبدو المبادر كأنه وجه المجتمع المُبتسم، المُستبشر والإيجابي، المعبّر عن التقبّل والانسجام والفاعلية والتطلع إلى المستقبل، وكأن الناشط هو وجه المجتمع الغاضب، المتشائم السلبي، الـمُعبّر عن التهميش والصراع والعجز واليأس، وكأن هذين الوجهين حقيقيان.
لكن للمجتمعات الخليجية وجهاً واحداً، هو الذي تأكله سطوة السياسة بمعناها العام، موضوعاً
وممارسات ومفاهيم، وتأكله السلطة تحديداً، بوصفها الحكومة ومنظومة الحكم. وذاك التباين والتنافر بين النموذجين الاجتماعيين للمبادرة والنشاط السياسي يتولّد من هذا الاستحواذ السلطوي على الفاعليّة الاجتماعية، فلا تترك السلطة فعلاً اجتماعياً ولا تجمعاً ذا بال، إلا استبدلت أرضيّتها بأرضيته ووضعت عليه اليد، إن أمكن، وإن لم يمكن، فإنها ستفرض حضورها فيه، عبر توليد الضغوط عليه ومحاصرته ونَفيِه، حتى يتم تسييسه غصباً، حاملة معها، في الحالتين، إلى كل مجال للفعل الاجتماعي ثقلها الذي لا يحتمله المجال وأدواؤها واعتلالاتها.
هذا ما يجعل تمظهرات اجتماعية يُفترض أنها متقاربة في غاياتها، تتباين وتتنافر، لأنها استبدلت الأرضية المجتمعية للعمل بأرضية السلطة، آخِذة معها اصطفافاتها ومصالحها. بهذه الطريقة، تَشَوّه مسار ميدان العمل المجتمعي في الخليج منذ وقتٍ مبكّر، بصوره التقليدية كجمعيات خيرية وأندية شبابية، حتى صوره الحديثة في قوالب المبادرات والعمل التطوعي. فعبر ربط العمل المجتمعي ببيروقراطية الدولة المعقدة (كضرورة الحصول على تصريح لكل تجمع ونشاط وحملة) اضطر العمل المجتمعي في الخليج إلى الارتباط الحتمي بالشخصيات النافذة في المجتمع التي تملك، وحدها، القدرة على تجاوز البيروقراطية والسماح لعجلة العمل بالدوران. وعبر تضييق قنوات الاتصال بالمجتمع الواسع وصعوبة الوصول إلى الموارد البشرية والمالية فيه أصبح العمل المجتمعي مضطراً إلى اللجوء إلى خزانات الموارد في منظومة الحكم ومحاسيبها. وعبر "الترخيص الحكومي" الذي يمكن سحبهُ، في أي لحظة، أصبح العمل المجتمعي مرتبطاً وجودياً بالحكومة.
حولت هذه القيود العمل المجتمعي إلى مسار يستحيل فيه أن تحمل مبادرات المجتمع مشروعاً مفارقاً لمشروع السلطة، أو قيماً مفارقة لقيمها، أو غاية مفارقة لغايتها. النموذج الطازج لهذه الحالة يتمثل في بنود نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية الذي أقرّته السعودية قبل أسبوعين (بعد تردد دام أكثر من ثماني سنوات). فبقدر تلهّف العاملين المجتمعيين إلى وجود سندٍ قانوني، يحرّر مجالهم من الصعوبات والقيود، جاء النظام ليؤكد على العمل المجتمعي، بوصفهِ امتداداً للحكومة، ومجالاً لسلطتها. في الوقت نفسه، حرصت الحكومات على خنق أيّ نشاط سياسيّ خارج عنها، على إغلاق كل قنوات التعبير، والتغيير، والتجمّع، وإطفاء حتى الومضات الخاطفة من النشاط السياسي التي ظهرت في ظروفٍ عابرة من أشخاصٍ لا يطمحون إلى التحول إلى سياسيين ينافسون السلطة، بقدر ما يطمحون إلى دفع السلطة نفسها إلى التغيير من الداخل، مغلقة المجال السياسي على من فيه ومولّدة احتباساً اجتماعياً واختناقاً للطاقة التي قد ترتدّ على وجهاتٍ زائفة.
من الممكن رؤية الطريقة التي تعمل بها هذه الهندسة الاجتماعية على إيجاد تناقضات ما كان لها أن توجد بين مجالات عالية الحركية في المجتمع. فهذه الهندسة تُنتج مفهوماً للمبادرة الاجتماعية، يحتقره الناشط السياسي الـمُحبط، إذ لا يراه إلا تعبيراً عن استعمال السلطة المجتمع من أجل استدامتها الذاتية، أو واجهة من واجهات البروباغاندا السلطوية وبريستيج النفوذ، فاحتقانه وإحباطه يدفعانه إلى محاكمة كل الظواهر الاجتماعية بمنظور وأدوات السياسة، حتى عندما لا يكون هذا منصفاً. كما أن هذه الهندسة تُنتج صورة للناشط السياسي، يحتقرها العامل الاجتماعي، بوصف النشاط السياسي ملاذاً للكسالى، العاجزين عن التعامل مع الواقع الذي يسخطون عليه، و أيضاً حتى عندما لا يكون هذا منصفاً. من الصعب تغيير هذا من دون تغيير جذري في العلاقات داخل الدولة بين المجتمع ومنظومة الحكم، وإن كان هناك من أمل، فهو في قلب مسار العمل الاجتماعي واستعمالهِ – فيما وراء غاياته الظاهرة – من أجل غاية أكبر، هي البحث عن طرق تجعل العمل الاجتماعي سبيلاً لتدريب المجتمع على العمل مستقلاً عن الحكومة، لا مُعتمداً، ولا مُستعملاً.
@Emanmag
بالطبع، هناك نماذج أخرى من الطموحين، هناك "الفاشينستا" وهناك "رياديو الأعمال" وهناك مستثمرو اللحظة والمصادفة على أشكالهم، لكن المبادر والناشط يتمايزان عن الآخرين، بما يُفترض، في جوهر نشاطهما، من بحث عن مصالح المجتمع والعمل من أجلها. واللافت أن هذين المستويين من النشاط لا يُفترض فيهما التناقض نظرياً، بل التقاطع والعمل سوية في بعض الحالات. المبادرة الاجتماعية لا تستغني عن خط العمل السياسيّ، عندما يكون من الضروري لنجاح المبادرة اجتماعياً، أن يتم الحفاظ على قوانين معينة، أو تغيير بعضها، أو تخصيص مزيد من الأموال والدعم لبعض القضايا، فإن التعامل مع السياسي يكون ضرورياً، العمل معه أو العمل ضده، بحسب ما يقتضيه الموقف. وتنهض كثيرٌ من قضايا الناشط السياسي على أساس مجتمعي، يتعلق بانعدام العدالة أو التمييز أو تردّي جودة العيش وهضم الحقوق الأساسية. نظرياً، يفترض أن يوجد الناشط والمبادر في مواضع كثيرة، حيث يعملان معاً، أو على الأقل ألا يوجدا في حالة تناقض. لكن، في الأعوام الأخيرة، مع ملاحظة توسع اقتباس تطبيقات المبادرة ومفاهيم النشاط السياسي في الخليج، تجب أيضاً ملاحظة تباين النغمات بينهما، وصولاً، في بعض اللحظات، إلى التنافر. يبدو المبادر كأنه وجه المجتمع المُبتسم، المُستبشر والإيجابي، المعبّر عن التقبّل والانسجام والفاعلية والتطلع إلى المستقبل، وكأن الناشط هو وجه المجتمع الغاضب، المتشائم السلبي، الـمُعبّر عن التهميش والصراع والعجز واليأس، وكأن هذين الوجهين حقيقيان.
لكن للمجتمعات الخليجية وجهاً واحداً، هو الذي تأكله سطوة السياسة بمعناها العام، موضوعاً
هذا ما يجعل تمظهرات اجتماعية يُفترض أنها متقاربة في غاياتها، تتباين وتتنافر، لأنها استبدلت الأرضية المجتمعية للعمل بأرضية السلطة، آخِذة معها اصطفافاتها ومصالحها. بهذه الطريقة، تَشَوّه مسار ميدان العمل المجتمعي في الخليج منذ وقتٍ مبكّر، بصوره التقليدية كجمعيات خيرية وأندية شبابية، حتى صوره الحديثة في قوالب المبادرات والعمل التطوعي. فعبر ربط العمل المجتمعي ببيروقراطية الدولة المعقدة (كضرورة الحصول على تصريح لكل تجمع ونشاط وحملة) اضطر العمل المجتمعي في الخليج إلى الارتباط الحتمي بالشخصيات النافذة في المجتمع التي تملك، وحدها، القدرة على تجاوز البيروقراطية والسماح لعجلة العمل بالدوران. وعبر تضييق قنوات الاتصال بالمجتمع الواسع وصعوبة الوصول إلى الموارد البشرية والمالية فيه أصبح العمل المجتمعي مضطراً إلى اللجوء إلى خزانات الموارد في منظومة الحكم ومحاسيبها. وعبر "الترخيص الحكومي" الذي يمكن سحبهُ، في أي لحظة، أصبح العمل المجتمعي مرتبطاً وجودياً بالحكومة.
حولت هذه القيود العمل المجتمعي إلى مسار يستحيل فيه أن تحمل مبادرات المجتمع مشروعاً مفارقاً لمشروع السلطة، أو قيماً مفارقة لقيمها، أو غاية مفارقة لغايتها. النموذج الطازج لهذه الحالة يتمثل في بنود نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية الذي أقرّته السعودية قبل أسبوعين (بعد تردد دام أكثر من ثماني سنوات). فبقدر تلهّف العاملين المجتمعيين إلى وجود سندٍ قانوني، يحرّر مجالهم من الصعوبات والقيود، جاء النظام ليؤكد على العمل المجتمعي، بوصفهِ امتداداً للحكومة، ومجالاً لسلطتها. في الوقت نفسه، حرصت الحكومات على خنق أيّ نشاط سياسيّ خارج عنها، على إغلاق كل قنوات التعبير، والتغيير، والتجمّع، وإطفاء حتى الومضات الخاطفة من النشاط السياسي التي ظهرت في ظروفٍ عابرة من أشخاصٍ لا يطمحون إلى التحول إلى سياسيين ينافسون السلطة، بقدر ما يطمحون إلى دفع السلطة نفسها إلى التغيير من الداخل، مغلقة المجال السياسي على من فيه ومولّدة احتباساً اجتماعياً واختناقاً للطاقة التي قد ترتدّ على وجهاتٍ زائفة.
من الممكن رؤية الطريقة التي تعمل بها هذه الهندسة الاجتماعية على إيجاد تناقضات ما كان لها أن توجد بين مجالات عالية الحركية في المجتمع. فهذه الهندسة تُنتج مفهوماً للمبادرة الاجتماعية، يحتقره الناشط السياسي الـمُحبط، إذ لا يراه إلا تعبيراً عن استعمال السلطة المجتمع من أجل استدامتها الذاتية، أو واجهة من واجهات البروباغاندا السلطوية وبريستيج النفوذ، فاحتقانه وإحباطه يدفعانه إلى محاكمة كل الظواهر الاجتماعية بمنظور وأدوات السياسة، حتى عندما لا يكون هذا منصفاً. كما أن هذه الهندسة تُنتج صورة للناشط السياسي، يحتقرها العامل الاجتماعي، بوصف النشاط السياسي ملاذاً للكسالى، العاجزين عن التعامل مع الواقع الذي يسخطون عليه، و أيضاً حتى عندما لا يكون هذا منصفاً. من الصعب تغيير هذا من دون تغيير جذري في العلاقات داخل الدولة بين المجتمع ومنظومة الحكم، وإن كان هناك من أمل، فهو في قلب مسار العمل الاجتماعي واستعمالهِ – فيما وراء غاياته الظاهرة – من أجل غاية أكبر، هي البحث عن طرق تجعل العمل الاجتماعي سبيلاً لتدريب المجتمع على العمل مستقلاً عن الحكومة، لا مُعتمداً، ولا مُستعملاً.
@Emanmag