إدوار الخرّاط.. واقعية الخيالات الذاتية

02 ديسمبر 2015
الخرّاط في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -


منذ نشر إدوار الخرّاط (1926 - 2015) أولى مجموعاته القصصية "حيطان عالية" في نهاية خمسينيات القرن الماضي، بدا أن صوتاً جديداً يشقّ ساحة الأدب المصري والعربي، مقدّماً ما اعتبر بعدها قطعاً مع تيار واقعي عارم، مثّلته بالخصوص مدوّنة نجيب محفوظ الروائية الضخمة. كان من الطبيعي ألا يسْلم صاحب "الزمن الآخر" من سهام النقد المحافظة في استقبال أعماله الأولى.

"الحساسية الجديدة" كحالة تنظيرية، وإن قدّم لها الروائي الراحل في كتاب متأخّر ظهر في عام 1993، تجلّت بوضوح في أعماله الأدبية ومقالاته النقدية السابقة على هذا التاريخ، والتي بدأت تُشكّل قواماً وعلامةً دالة على توجّه صاحبها وانحيازاته الفنية بنهاية الستينيات، بعد الخلخلات الاجتماعية والنفسية والثقافية، فضلاً عن السياسية التي أحدثتها هزيمة يونيو/حزيران 1967.

إضافة إلى التبشير والتنظير للتيار الجديد، الذي اعتبر النظر إلى الذات الداخلية وأوجاعها النفسية وأسئلتها الفلسفية قوام عوالمه ومحط اهتمامه وهمومه، أرفد صاحب "يا بنات إسكندرية" نظريته الجمالية بما سمّاه "الكتابة عبر النوعية"، والتي قصد بها استعارة أدوات تعبيرية من الفنون الأخرى، مثل الموسيقى والفن التشكيلي والسينما، وتحقيق اتصال قرائي لا يتوقّف عند حدود الكلمة المكتوبة في بعدها الواقعي.

اتصالاً بهذا الأمر، يمكن اعتبار الراحل - إلى جوار راحل آخر هو الكاتب بدر الديب - من نوعية الكاتب "الميتاروائي"؛ ذلك الذي يؤسّس لعلاقة مستحدثة بين النص والقارئ، تقوم على نوعية قراءة مغايرة وتراهن على القراءة الإبداعية.

لعل ذلك يفسّر عدم ذيوع اسم الرجل خارج الأوساط الأدبية بالمقارنة مع مجايليه، كجمال الغيطاني ويوسف القعيد. لكن، بالمقابل - ومع أسباب أخرى كعمله في منظمة تضامن الشعوب الأفريقية والآسيوية، والإشراف على منشوراتها الثقافية - وصلت أعماله إلى لغات أخرى، مما جعله معروفاً أكثر خارج بلده.

بالعودة إلى التيار الجديد الذي أسّسه صاحب "مخلوقات الأشواق الطائرة"، لا يمكن اعتبار أن هذه الحساسية قتلت الحضور الواقعي للشخصيات ومحيطها الاجتماعي، لكنها أسّست لواقعها الجديد المنبني على خفايا الروح وخيالات الذات.

يفسّر الخرّاط هذه النظرة للواقع في أحد حواراته عبر تحليله لما كتبه عبد الفتاح كيليطو، ذات مرة، عن مغامرات السندباد؛ حيث كَتب الأخير: "قد يكون السندباد رجلاً كسولاً يعيش في أزقة بغداد، له خيال نشط، ومغامراته ورحلاته محض خيال".

ردّ الخرّاط وقتها: "تحليل كيليطو الشائق أن مغامرات السندباد أو أي سندباد آخر وهو قابع في عقر داره، لا يمكن أن تكون خيالاً محضاً؛ فما دامت قد حكيت أو سردت أو قيلت شفاهة فقد اكتسبت بعداً معيناً مما نسميه الحقيقة. ذلك أن الخيال فيه غير منفصل تماماً عن الواقع، بل لعلّ فيه واقعاً أعمق واقعية مما نسميه الواقع".

هذه الحساسية التي لا تجافي الواقع، لكنها تعيد تشكيله على هواها، حتى ولو كان ذلك عبر منحه أبعاداً أسطورية، أسكنها الإسكندرية، مدينة صبا ونشأة الراحل، في معظم أعماله. وَلَهُ الخرّاط بإسكندريته هو علامة أخرى يُعرف بها في تجربته، وكتاباته عنها تحتوي على ذلك التغنّي بماضٍ كوسموبوليتاني تجاورت فيه الطوائف والأعراق، فيها كذلك الحمولة الشعرية العاطفية.

كتب عنها مرّةً: "مياه كثيرة لا تُغرق عشقي، والسيول لا تغمره، صخرة ناعمة الحنايا أنت في قلب الطوفان، سفوحها ناعمة غضة بالزروع اليانعة، بالسوسن والبيلسان، ترابها زعفران".

تلك الرواية تحديداً، "ترابها زعفران"، كانت أغنية حب لإسكندريته، انطبع ذلك في لغتها وعوالمها الأسطورية السابحة في رمزيات فرعونية وقبطية ومسلمة، وحكايتها عن غرام شاب مسيحي (ميخائيل) بفتاة مسلمة (رامة)، الأمر الذي تُنحر بسببه في مصر، حتى يومنا هذا، رقاب البنات، ويهجّر على خاطره العشّاق.

لغة الخرّاط في عمومها كانت محمّلة بطاقات شعورية وفلسفية تقترب بها من الشعر، وكان هذا توظيفاً منه لما بشّر به في استثمار إمكانات الفنون الأخرى. لكن مع ذلك، لا يمكن وصف لغته بأنها كانت تمثّل نسيجاً واحداً ومتكرّراً طوال الوقت؛ حيث كانت تتشكّل تبعاً لتشكّل البناء الروائي والقصصي لحكاياته، مثلما فعل في "رامة والتنين"؛ حيث جعل الحوار والبناء الروائي سائلاً ومدموغاً بلغة فلسفية، من خلال طاقة الاعتراف والتماس لغة بين الكتابة السير- ذاتية والكتابة الروائية.

عموماً، استطاع الخرّاط، مع الحمولة الشاعرية للغته، أن يكسيها بعداً واقعياً - وأحياناً وثائقياً - يطبعها بالتنوّع المطلوب، ويمنحها كذلك الحرارة والحياة. "ليس ما نسمّيه الواقع شيئاً كريهاً في ذاته، ففيه من أهوال الجمال ما يروع القلب"، هكذا، كان إدوار الخرّاط يقول الروائي، وعلى هدى هذه الجملة ربما نتمكّن من تحديد دقيق لمفهوم "الحساسية الجديدة" الذي صار علامة يُعرف بها وتُعرف به.


اقرأ أيضاً: غالب هلسا.. موعد في الخماسين

المساهمون