ثمة مجموعة من المشكلات تعرض لها الاقتصاد المصري، ويجمع الاقتصاديون على أن قواعد الإدارة الاقتصادية السليمية، تقتضي الاستفادة من الفرص التي تتيحها هذه المشكلات، وليس فقط مجرد التعامل معها من مدخل المسكنات، أو استيعاب المشاكل، والبحث عن حلول وقتية لها.
الإدارة الاقتصادية المصرية، اتخذت من منهج التعايش مع المشكلات، وعرضها على أنها معضلات لا يمكن حلها، أسلوبًا معتمدًا لدى كافة حكومات العقود الماضية، ففي الثمانينيات كنا نتحدث عن المديونية العامة، والبطالة وعجز الموازنة، وانخفاض كفاءة العمالة المصرية، وأزمة الإسكان، وعدم ربط مؤسسات التعليم باحتياجات سوق العمل، والفجوة بين المدخرات والاستثمارات القومية.
ولم يتغير شئ بعد مضي ما يزيد عن ثلاثة عقود، سوى أن المشكلات الفرعية أصبحت مشكلات رئيسة، تضاف إلى قائمة المشكلات المتراكمة، ولذلك بقيت مصر دولة نامية، ذات ناتج محلي متواضع لا يتجاوز 300 مليار دولار في أحسن الأحوال، بينما ماليزيا التي يصل عدد سكانها لنحو ثلث عدد سكان مصر، يتفوق نتاجها المحلي عن هذا الرقم المتواضع، ليصل إلى 330 مليار دولار. ليس هذا فحسب، ولكن ناتج ماليزيا قائم على اقتصاد انتاجي، بينما الاقتصاد المصري يعتمد على الاقتصاد الريعي والخدمي بشكل كبير.
وقد يكون من المناسب عدم استصحاب البعد الزمني لمشكلات الاقتصاد المصري، وبيان سوء الإدارة الاقتصادية في التعامل معها، ولكننا نشير إلى بعض المشكلات الآنية التي تطل على المجتمع المصري، لتفقده توازنه في تدبير احتياجاته المعيشية، وسط معاناة من البطالة والفقر والتضخم. وفيما يلي نتناول مظاهر سوء الإدارة الاقتصادية في مشكلات يعاني منها الاقتصاد المصري.
انخفاض قيمة الجنيه
تعرض الجنيه المصري لانخفاض قيمته غير مرة. ليس ذلك بعد ثورة يناير 2011 فقط، ولكن منذ الانخفاض الكبير في قيمة الجنيه في مطلع عام 2003، حيث أعلن رئيس الوزراء حينذاك، الدكتور عاطف عبيد عن الانخفاض بشكل رسمي، ليقفز الدولار من 3.30 جنيه إلى 4.50 جنيه في السوق الرسمية، بينما لامس سعر الـ 7 جنيهات في السوق الموازية.
وتكرر الأمر بعد ثورة يناير بشكل ملحوظ، فبعد 5.90 جنيه للدولار في نهاية عام 2010، وصل السعر الرسمي إلى 5.15 جنيه للدولار في السوق الرسمية، ووصل إلى 7.70 جنيه للدولار في السوق الموازية. وبذلك يكون الجنيه المصري قد فقد نحو 30 % من قيمته بعد ثورة 25 يناير وحتى الآن.
ظن صانع السياسة النقدية، أن حماية سعر الصرف هي منتهى النجاح مهما كان الثمن، كما ظن أن نفس ظروف الاقتصاد المصري والعالمي هي نفس الظروف التي مرت بعد عام 2004، وأن لديه موارد من النقد الأجنبي تمكنه من ممارسة حماية سعر الصرف بسهولة، ولكن الأمر مختلف، فدفعت مصر ثمنًا غاليًا، بأن فقدت نحو 20 مليار دولار من رصيد احتياطي النقد الأجنبي، وفي نفس الوقت لم تحقق مستهدفها بالوصول إلى استقرار سعر الصرف، أو حماية الجنيه المصري.
إن الفرص التي تخلقها مشكلة انخفاض قيمة الجنيه المصري، متعددة، منها العمل على زيادة الصادرات، وهو الدرس المستفاد من أزمة دول جنوب شرق آسيا في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، حيث تم تنشيط الصادرات بهذه الدول بشكل مزهل، بعد أن انخفضت قيمة عملتها بنحو 40 %. ولكن الواقع المصري عكس ذلك تمامًا. فبدلًا من زيادة الصادرات والحد من الواردات، اتجهت الواردات للزيادة، وبقيت الصادرات على قيمتها أو على أحسن التقديرات شهدت زيادة طفيفة.
في عام 2010/2011 كانت قيمة الصادرات المصرية 26.9 مليار دولار، انخفضت في 2013/2014 إلى 26.1 مليار دولار، بينما زادت الواردات خلال نفس الفترة من 54.09 مليار دولار إلى 59.8 مليار دولار. ومما يؤخذ على الإدارة الاقتصادية المصرية في هذا الأمر، أن الأزمة ليست بالجديدة عليها، كما أن طرق الاستقادة منها ليست حلًا غير مسبوق، ولكنه الفشل الذي صاحب الإدارة الاقتصادية لفترات طويلة.
إن إدارة سعر الصرف ليست قضية تخص السياسة النقدية وحدها، ولكنها مزيج من التعامل بين مكونات السياسة الاقتصادية الكلية. إن استقرار سعر الصرف في فترة ما بعد عام 2005، لا ترجع لعوامل نجاج ذاتي أو لحسن إدارة السياسات الاقتصادية، وانما يرجع إلى التدفقات النقدية الناتجة عن بيع بنك الإسكندرية، وبيع الرخصة الثالثة للهاتف المحمول، وتدفقات الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة في السندات الحكومية، وهو الأمر الذي مكن البنك المركزي من استخدام آلية السوق المفتوحة للوصول لاستقرار مؤقت خلال هذه الفترة.
هيكلة الواردات
لكل مطلع على الميزان التجاري المصري، يجد سمة ثابتة على مدار العقود الأربعة الماضية، الصادرات نصف الواردات أو أقل منها، وأن هناك نسبة للسلع الاستهلاكية لا يستهان بها تصل إلى 25 % من إجمالي الواردات، ولا يأبه المسئولون عن الإدارة الاقتصادية المصرية بتداعيات هذا الأمر سلبيًا على الاقتصاد.
فمن ناحية يمثل ثبات هذه النسبة للسلع الاستهلاكية ضغطًا غير مبرر على العملة الأجنبية، ومن ناحية أخرى يؤدي إلى منافسة شديدة مع الصناعات والمنتجات المحلية، وبدلًا من التفكير في تشجيع المنتجات المحلية، التي تساعد في فتح فرص عمل جديدة، وتؤدي إلى تحسين أداء الناتج المحلي الإجمالي، نجد كل هم المسئولين عن الإدارة الاقتصادية، هو تدبير التمويل اللازم لاستيراد هذه السلع.
نحن لا نعني بهذا الحديث السلع الاستفزازية، ولكن نعني تلك السلع التي أصبحت متطلب لشريحة كبيرة من السكان، مثل مستلزمات المدارس من أقلام وحقايب وحاسبات وألون، فضلًا عن السلع الغذائية، سواء كانت مواد خام أم مصنعة. ولعل هدم تجربة الاكتفاء الذاتي النسبي من القمح، أبرز مظاهر تضييع الفرص من قبل القائمين على الإدارة الاقتصادية لمصر.
الدين العام
الإدارة الاقتصادية السيئة للدين العام المصري حولته من مشكلة إلى معضلة، فتم استسهال تمويل عجز الموازنة بالدين العام المحلي، دون النظر إلى ترشيد الإنفاق الحكومي، أو تفعيل سياسات مالية جادة تعظم من الإيرادات العامة، فلا تزال الإيرادات الضريبية تمثل 66 % من إجمالي الإيرادات العامة، وفي القلب من هذه الإيرات الضريبية، تشكل ضرائب هئيتي البترول وقناة السويس نحو 45 % من إجمالي المتحصلات الضريبية.
ولم تستهدف أيًا من الحكومات المصرية السابقة سداد الدين العام حتى يصل إلى الحدود الآمنة، لقد ظلت الحكومات المتعاقبة تراهن على أن المفهوم الضيق للدين العام والمتمثل في الدين الحكومي، وأنه دون حد الخطر، حتى تجاوز الدين هذه الخطوط، وأصبح دور صانع السياسة المالية لا يتعدى مجرد استهلاك الديون القديمة بديون جديدة عبر آلية السندات وأذون الخزانة.
فمع انخفاض قيمة الجنيه المصري، أصبح جزء كبير من قيمة الدين العام المحلي قد فقد قيمته بالنسبة للدائنين، ولو أن الحكومة استهدفت سداد هذه الديون، لكان لديها المقدرة الآن على السيطرة على عجز الموازنة، والوصول بالدين العام بمكونيه (المحلي + الخارجي) إلى ما دون نسبة 60 % من الناتج المحلي الإجمالي، فضلًا عن توفر موارد مالية يمكن استتخدامها في تحسين مخصصات الإنفاق على قطاعي التعليم والصحة.
ولكن منطق الاستسهال، أوصل الدين العام المحلي ليكون وحده بحدود نسبة 95.5 % من الناتج المحلي الإجمالي، مع وجود رغبة وسلوك على الأرض للتوسع في الدين الخارجي، في ظل موارد محدودة، وناتج محلي هش، وهو ما ينذر بعواقب مالية واقتصادية غير محمودة بالنسبة للاقتصاد المصري.
الأمثلة المذكورة في هذه السطور ليست على سبيل الحصر، ولكنها مجرد أمثلة، إن ما حدث من إهدار للفترات الإنتقالية في اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، أو مع منظمة التجارة العالمية، خير دليل، حيث وجدت الصناعات المصرية في مجالات مختلفة أمام تحديات المنافسة الأوروبية والعالمية، مما أدى إلى إغلاق العديد منها، وتحويل أصحابها إلى ممارسة التجارة. ولعل مصير شركات النسيج الخاصة بقطاع الأعمال العام خير دليل، حيث تستنزف 180 مليون جنيه سنويًا كمرتبات من الموازنة العامة للدولة، بسبب عجز هذه الشركات عن توفير المرتبات.