ليس كتابَ تنميةٍ بشرية من نوعية كتابات نابليون هيل وجون روبنز وديل كارنغي وإن أوحى عنوانه بذلك. "حرّر ذهنك" (في صيغة التهذيب الفرنسية) هو عنوان كتاب الباحث الفرنسي الجزائري إدريس أبركان (1986)؛ شخصية تشق طريقها إلى مشهد "مشاهير الفكر" في فرنسا، لسببين على الأقل، أولهما ظهور إعلامي مكثّف، والثاني محاولة الوقوف عند "آخر صيحات" المعرفة، واستدعاء هذه العبارة من معجم الموضة ليس بدون مناسبة.
بحسب جان فرانسوا دوتييه في كتابه الموسوعي "العلوم الإنسانية.. بانوراما المعارف"، فإن موضة العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين هي إدماج بادئة "نورو" (من Neurologie: العلوم العصبية) على أسماء المجالات المعرفية الأساسية ما يخلق حقول بحث جديدة مثل "نورو- أنثروبولوجيا" و"نورو-علم نفس" و"نورو-علوم السياسة" وغيرها.
في نفس هذه المنطقة يقف كتاب أبركان وهو ما نجده في عنوانه الفرعي "مصنّف في النورو-حكمة من أجل تغيير المدرسة والمجتمع". "نورو-حكمة" مزاوجة بين مفردة عتيقة وأخرى جدّ راهنة، وهو اختيار يندرج ضمن مشاغل أبركان الأولى، فقد كان موضوع أطروحته الجامعية في 2014، "نزهة الوعي بين الشرق والغرب: منظور صوفي للوعي الغربي".
هكذا يفتح العمل على نافذتين؛ قديم المعرفة وما يمكن أن تقدّم من عِبرٍ وإضاءات على واقعنا اليوم، والعلوم الحديثة التي لا يكتفي باستعمال مُخرجاتها، بل يضمّن نصه الكثير من حكايات عوالمها؛ فنجد سيراً مقتضبة للعلماء، وحكايات اكتشافاتهم ومقتطفات من مذكراتٍ ومحاضرات وغيرها.
ينطلق العمل من ملاحظة يستعيرها المؤلف من رينيه غينون بأنه "يوجد سوء استعمال للذهن البشري"، وأن "حلم تغيير العالم" لا يحتاج سوى إلى تغيير طريقة استعمال العقل، فبدل إخضاع الواقع إلى معايير جاهزة وموروثة ينبغي إعادة تكييف هذه المعايير مع الواقع. ما يصوغه في العبارة التالية: "بدل أن نطلب من الطبيعة أن تنتج مثل مصانعنا، أحرى أن نجعل من مصانعنا تنتج مثلما تفعل الطبيعة"، نفس العلاقة سيبني عليها طرحه حول المدرسة "لا ينبغي أن نجبر الذهن على أن يشبه المدرسة، بل على المدرسة أن تشبه الذهن البشري".
المدرسة، هنا، هي جهاز مبرمج من أجل "إنتاج التماثل"، بالتالي إغراق الذهن في نماذج الآخرين وآرائهم وأصواتهم، بعبارة أبركان: "المدرسة مرحلة تأهيل كي نعيش حياة أحدٍ آخر"، تفرض ذلك عبر مجموعة من الامتحانات المتتالية يكون الفشل عقاب عدم السقوط في التماثل، وتقدّم الشهائد لـ"المبدعين في التماثل".
في عملية تفكيك جهاز المدرسة، يجد أبركان أنها باتت تصنع بنية عقلية مهيأة لاستقبال المعلومة وليس لاستقبال المعرفة بمعناها الواسع. لقد أرادت المدرسة أن "تعوّض القلب والحدس في معرفة طريقنا ومعرفة أنفسنا؛ النتيجة استعبادٌ لا يقول اسمه وفيه ينتهي المستعبَدون بالتعاون"؛ راسماً صورة ديستوبية لـ"عالم من الصناديق"، من المهد إلى اللحد، مروراً بالمدرسة والبيت، قد تكتشف فيه أن "حياتك قد جرى احتلالها".
حيال ذلك، كيف يمكن التغيير؟ هنا، يتجه أبركان صوب مجال علمي آخر؛ اقتصاد المعرفة، يبدو المصطلح حديثاً غير أن المجال موغل في القدم، حيث إن البشر تبادلوا الخبرات قبل أن يتبادلوا الأدوات والبضائع.
خاصية اقتصاد المعرفة، أن عنصر التبادل فيه لانهائي، فعلى عكس الاقتصاد المادي الذي تكون فيه كل عملية تبادلية عبارة عن زيادة ونقصان (تبادل يعني طرف ينقصه المال وآخر تنقصه بضاعة) فإن المعرفة عند كل تبادل لا يحدث معها نقص، فكل مشاركة تعني ازديادها. كما أن من خصائصه أن القوة الشرائية فيه لا تحدّدها ظروف إكراهية بنفس حدّة الاقتصاد المادي، حيث إن العامل الذاتي له أسبقية على الظرف الخارجي. باختصار؛ القدرة الشرائية في اقتصاد المعرفة مرتبطة بالحب والرغبة والانبهار. المطلوب هو ترفيع هذه القدرة الشرائية ودخول الجميع إلى اقتصاد المعرفة.
بناء على هذا الإطار النظري يبدأ التفكير في تغيير المدرسة (والمجتمع من ورائها)، حيث يلاحظ أن برامج التعليم اليوم تعمل على "إخصاء الانبهار"، مقدّماً استعارة طريفة يقول فيها أن مؤسسات التعليم مطاعم للمعرفة، و"المطاعم الناجحة هي التي تعرف كيف تجدّد شهية روادها"، وفي حال فشلت في تجديد الشهية لن تكون نتائجها سوى "عقول مسمّنة من أثر التزقيم".
يرى أبركان أن الفارق بين الممتاز والعادي هو الممارسة غير المحدودة، وهذه لا يمكن أن تتوفر من دون رغبة ذاتية، وهنا تقع كل الرهانات. من بين مقترحاته إدخال ألعاب الفيديو إلى المدرسة، فلحظة اللعب هي لحظة من المتعة والانبهار وتكرار المحاولة، تقوم اللعبة بتوجيه وتركيز الانتباه وتدريبه، وتخلق تفاعلاً حياً مع ممارسة غير مشروطة بالعقاب، فالخطأ جزء من اللعب.
هذا الطرح يضعه في بُعدٍ أوسع، حين يتساءل "هذه المدرسة ما الذي تطمح إليه؟ أن تضعنا في مواقع في المنظومة الاقتصادية، ونموذجها الصناعي الطاغي؟ لكن ذلك يفضي إلى تناقض: فالأماكن محدودة بالضرورة". كما أنه بعد المرور من مئات السباقات الفردية سنعثر على تناقض آخر، وهو أن قيمة التعاون والشعور بالآخر ستكون مفقودة.
نصل مع نهاية العمل إلى الوقوف أمام الرعب الحقيقي الذي يختفي وراء الأفق، الانهيار الحضاري، رعبٌ ليس جديداً الحديث عنه، إذ يورده المؤلف استناداً إلى ابن خلدون وأرنولد توينبي وإسحاق أسيموف وهم يؤكدون بأن "الحضارات لا يجري اغتيالها وأنها تموت منتحرة".
يحظى كتاب أبركان باستقبال جيّد، بداية من كونه صادراً عن دار نشر معروفة "روبير لافون" (ديسمبر/كانون الأول 2016) ما مكّنه من توزيع واسع، ويجد فرص حضوره على قوائم الأكثر مبيعاً، وقد أرفقت في طبعات جديدة صورة المؤلف على الغلاف، ومؤخراً ملصق بأن "رقم مبيعاته تجاوز الـ150 ألفا". إلى جانب ذلك جرى استدعاء أبركان إلى برامج تلفزيونية وإذاعية كثيرة ليتحدّث عن عمله.
هنا أيضاً نشعر أن ثمة أثراً لـ"التزقيم"، فصناعة النجومية لا تقدّم في الغالب بشكل عفوي أو من أجل جودة منتج فكري. أبركان يبدو مستسلماً لهذه الصناعة الإعلامية، وما يطرحه يتعرّض إلى ما تفعله الميديا من "ابتلاع" لكل فكر نقدي ليصير هو الآخر جزءاً من "المنظومة".