يختبر تطبيق مشاركة الصور والفيديوهات "إنستغرام"، منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، خاصية إلغاء عدد "الإعجابات" Likes على المنشور الواحد، كي لا يتمكن المتابعون من معرفة عدد الإعجابات على منشورات الآخرين، في حين يمكن للمستخدم معرفة هذا العدد على منشوراته.
ويقدم "إنستغرام" على إخفاء الـ"لايكات" للتقليل من الضغط الناتج عن الرغبة في الحصول على "الإعجابات"، والتركيز أكثر على مشاركة الحب والصور، وفق ما أوضحت مديرة قسم حماية الأسرة في منصتي "إنستغرام" و"فيسبوك"، ميا غارلك. لكن الأمر حقيقة يتجاوز الضغط النفسي، فلا حد لما يمكن لأحد أن يقوم به في سبيل الحصول على ضغطة واحدة على صورته.
تبدو السياسة السابقة معقولة للوهلة الأولى، إلا أن أثر الصور الشخصيّ، وخصوصاً تلك المُحسنة يتجاوز الرغبة في الـ"لايكات"، متحولاً إلى سلوك يومي لمدمني تحميل هذه الصور، لاستعراض وأداء لا بدّ من إتقانه في سبيل "الظهور" في كل صورة بأحسن شكل قابل للتداول و"الإعجاب"، لتصبح "عمليّة" التقاط صورة أشبه بالعمل، خصوصاً أن الكثيرين ممن يمتلكون عدداً كبيراً من المتابعين تحولوا إلى شبه موظفين لدى شركات الإعلانات.
إدمان الفلاتر والمحسنات دفع الكثيرين من المشاهير، كالكاتبة والمصورة الفرنسية غارونس دوريه Garance Doré، إلى تقديم شكل مختلف من الصور تحت وسم #GettingReal (لنكن حقيقيين). وقد بدأت بالتقاط صور لها من دون مكياج، مرتدية الثياب العاديّة في بيتها أو راكضة في الشارع من دون أي مؤثرات، في محاولة لمشاركة حياتها "الحقيقية". تحولت صفحة دوريه لاحقاً إلى ما يشبه المذكرات العلنيّة التي تحوي اعترافات شخصية وحميمية تقدمها من دون أي زخرفة، إذ تكتب عما تشعر به مُنتقدةً ماضيها "المبهرج".
Instagram Post |
وأقدمت على الخطوة عارضة الأزياء حياة ريدا Hayet Rida، التي تحدثت عن هوسها بالمحسنات والفلاتر وعلاقتها مع حيوانها الأليف. وهنا تجدر الإشارة إلى أن "إنستغرام" حظر فلاتر الجراحات التجميلية، مثل شد الوجه وحقن البوتوكس في الصور، استجابة لصعود المخاوف إزاء تأثيرها على الصحة الجسدية والعقلية، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
Instagram Post |
لا نقول إن الصور أصبحت "أبشع" بل أقل وهميّة، وذلك للإضاءة على الاختلاف بين الحياة الواقعية والفلاتر، وهذا ما يُطرح في الحلقات الصوتية (بودكاست) التي تقدمها إمبري روبرتس Embry Roberts، وتناقش فيه مع ضيوفها ما لا يظهر في "الصورة"، لنكتشف الاضطرابات التي تصيب الكثير من مشاهير "إنستغرام" نتيجة ادمانهم على الظهور بأفضل شكل.
المفارقة أن كل هذه الدعوات تحدث على "إنستغرام"، ومن يأخذون صور "لنكن واقعيين"، ينصاعون لنموذج عمل التطبيق الشهير: "انشر صورك، كي ننشر إعلانات، ثم نتقاسم الربح"، ليبدو الأمر أشبه بصيحة لا يمكن أن تحمل الكثير من الجدية، هي فقط جزء مما يظهر أمامنا، أشبه بعلامة تجاريّة، خصوصاً أن المنصة قائمة على الربح من الإعلانات التي يقوم بها "المؤثرون"، أي أولئك الذين يبدأون هذه الصيحات ويكسبون منها.
الإشكاليّة أيضاً تمكن في المؤثرين الذين يمتلكون القادرة على تغيير أذواقهم وأفكارهم وآرائهم بسرعة حسب "السوق" أو ما يتداول، فأداؤهم العلني بأكمله سينيكي وغير جدّي، سواء كان هذا الأداء متقناً ومحسناً أو سيئاً يبرز العيوب ويحتفي بها، ففي كلا الحالتين هناك ربح واستعراض، واختلاف بين الحقيقة والواقع. إذ لا يمكن اختزال الواقع بصورة واحدة واقتباس إلى جانبها، الأمر أشبه بمزحة سمجة نضطر لسماعها بانتظار أن ينتهي صاحبها منها.
لا تكمن الإشكالية بالشكل أو المضمون المرتبطين بكل صورة، بل بالإطار الذي تظهر ضمنه الصور والمساحة التي تتيح لها أن تكون علنيّة، فالقيمة التي تكتسبها الصورة لا تأتي من محتواها بل من قدرتها على لفت انتباه "المُتصفح" خلال الثواني التي تظهر فيها أمامه، وهنا تأتي الرغبة بفعل المستحيل في سبيل جذب المتصفح في سبيل أن يضغط على رمز "إعجاب".
من الممكن أن يكون إلغاء عدد الإعجابات خطوة أولى، لكنها عبثية أمام منصات النشر المختلفة التي تُبيح نشر سيل من الصور والدعاية والأكاذيب والحقائق، الأمر الذي بلغ أوجه أخيراً في شهادة مؤسس شركة "فيسبوك" ومديرها التنفيذي، مارك زوكربيرغ، أمام الكونغرس، حين وارب عندما سُئل عن قدرة "فيسبوك" على حذف المنشورات الممولة من السياسيين التي تحتوي على أكاذيب، فأجاب أن من حق الناخبين أن يطّلعوا على آراء من سينتخبونهم حتى لو كانت كاذبة، لكن ماذا لو نُشرت أكاذيب أكثر؟ ماذا لو استفاد أحدهم من "مصداقيته" لنشر حقائق مغلوطة؟ هنا زوكربيرغ لا يجيب، بل يتلكأ كعادته، وكأنه لا حقيقة في هذا العالم الآن، بل سيل من الفلاتر والأكاذيب حتى "الدولة" نفسها لا تستطيع التحكم بها، لذا تشارك في صناعتها.