إبراهيم كيفو: في ذاكرتي تاريخ من اللاعودة

17 ديسمبر 2014
+ الخط -

يردّد الكثير من السوريين في المحنة التي يمرون بها أغنياتهم وتراتيلهم وملاحمهم القديمة مستجيرين عبرها بتراثهم ورموزهم الثقافية على تنوّعها. في الوقت نفسه، وعلى مسارح عديدة في العالم، يقف إبراهيم كيفو؛ ليعيد تقديمها وغناءها بالعربية والسريانية والآشورية والأرمنية والكردية.

كيفو الذي غنى الكثير من الأغنيات والملاحم الأيزيدية، يرى أنها تتطابق إلى حد كبير مع واقع حالهم اليوم: "التراتيل الدينية والغناء باسم الأبطال القدماء هما أبرز ملامح الغناء الأيزيدي، ما جعله حاضراً بقوة على ألسنة الناس في هذا الظرف الصعب، فنسمع عامة الناس يرددونها كنوع من طقوس الاستغاثة، بينما يستحضرون القوة والعزيمة من محاكاة قادتهم التاريخيين أمثال درويش عبدي وحمو شرو ولسان حالهم يقول: هل يأتي أمثال هؤلاء من جديد ليردّوا عنا الظلم، وليخلصونا من هول هذه المصائب؟".

ابن مدينة عامودا في محافظة الحسكة (1965)، تلحّ عليه هذه الأيام سيرة جدّه الذي جاء من أرمينيا طلباً للحياة، فاحتضنه الأكراد الأيزيديون في سوريا، وتعايش مع العرب ولغتهم التي نهل منها أبناؤه وأحفاده علمهم ومعارفهم، وها هو الحفيد اليوم يكمل فصلاً آخر من فصول هجرة الجدّ بعد أن سافر إلى ألمانيا، دون أن يستسلم لفكرة الهجرة: "أخاف كثيراً من عبارة "خرج أو هاجر من سورية"، إذا قلتها أشعر أنني لن أعود إليها ثانية، خاصة أنني أحمل في ذاكرتي تاريخاً من اللاعودة".

نشأ كيفو في بيئة خصبة ومتنوعة، فأمه وأخواله كانوا ينطقون باللغتين الأرمنية والتركية، بينما أتقن الكردية في البيئة التي عاش فيها، وتعلّم العربية على مقاعد الدارسة. لذلك، كان لزاماً عليه عندما بدأ أولى خطواته الموسيقية أن يتعلم ويحفظ كل أنواع الغناء التراثي في الجزيرة السورية، فأخذ عن والدته صاحبة الصوت الجميل الغناء بالأسلوب "المارديني" (نسبة إلى منطقة ماردين على الحدود التركية السورية)، وتأثر بالغناء البدوي العربي السائد في أغلب المناطق السورية، حتى في قلب مدنها الكبرى، فما لبث بعد تجربة طويلة أن تعدى مرحلة المطرب، ليصبح موثّقاً للموسيقى والغناء السوري في تلك البقعة الغنية بالفنون التراثية والفولكلورية، وأطلق عليه كثيرون لقب "سفير الأغنية الجزراوية".

من هنا، يأتي اختيار الموسيقار نوري إسكندر له في مسرحيته الغنائية "عابدات باخوس": "لهذا العمل أثر كبير في حياتي. أولاً؛ لأنه دور بطولة غنائية في عمل أعتبره كبيراً ومهماً. ثانياً؛ لأنها كانت فرصة لأعمل مع المؤلف الموسيقي نوري إسكندر، المعروف بـ "الملفونو"؛ أي شيخ المعلمين باللغة السريانية". هكذا، بعد "عابدات باخوس"، رأينا كيفو يقدّم عروضاً على مسارح أوروبية، منها مسرح "أكروبوليس" في مدينة أثينا اليونانية.

لم يكن لمدينة مثل حلب الواقعة في منتصف الطريق بين الحسكة ودمشق أن تدع كيفو يمرّ بها دون أن تترك أثرها فيه. ففي عام 1987 أتم فيها دراسة المعهد الموسيقي، وحفظ العديد من الموشحات والقدود الحلبية.

مع ذلك، بقيت كفّة فطريته الموسيقية راجحة على معظم ما تعلمه واكتسبه: "تربيت بشكل فطري، وتعلّمت من كل مفردات البيئة المحلية، فأخذت من صوت المياه القدرة على تحفيز العطش داخل الجمهور، وتعلمت من مطحنة والدي في القرية قوة الأداء، ومن رعاة الأغنام النفس الطويل، دققت في كل شيء وطبعته في روحي، إضافة إلى فضل لدراستي وأساتذتي، الذين أتاحوا لي تكوين وعي جديدٍ طوّر تلك الفطرة، ما أوصلني إلى تحديد شخصية موسيقية تخصني".

على مسارح أوروبا، تقف لغات أغنياته حاجزاً بينه وبين فهم المستمعين، هو القادم من بلاد بالكاد يجدُ فيها المغنّي حيّزاً لصوتِه الذي بات خفيضاً أمام الأصوات التي فرضتها الحرب. من هنا، يعوّل كيفو على ما يتعدى الفهم الحرفي والمألوف للأغنية:

"بغض النظر عن أن الموسيقى هي لغة عالمية، فإن رسالتي تصل إلى الناس كما أشاء تماماً من خلال أمرين متلازمين، هويتي السورية القادرة على احتواء التنوع الديني والقومي بمرونة عالية، ودرجة الصدق والإحساس بما أقدّمه للناس. وفي كثير من الأحيان أسأل الجمهور الأجنبي: هل تفهمون عليّ؟ فيقولون: نفهم كل شي من خلال شعورك وإحساسك. وهذا لا يتوقف عليّ وحدي، بل على كل من يشاركني العزف والغناء".

أخيراً، وبدعوة من إدارة مهرجان "مورغن لاند" في مدينة أوسنابروك الألمانية، قدّم كيفو أربع مشاركات فنية، الأولى مع فرقة "شامبر" بأغنية كردية عبر لحن مشترك بينه وبين الفنان الكردي السوري غني ميرزو، والثانية مع مجموعة من المشاركين في المهرجان، والثالثة كانت مع فرقة الجاز التابعة لراديو NDR مع المغنية الكردية التركية أينور دوغان، أما الرابعة، فشهدتها مدينة ديفنتر الهولندية ضمن برنامج المهرجان نفسه، وقدم فيها باقةً تنتمي إلى مختلف ألوان الفولكلور السوري.

وفي لبنان، شارك كيفو في مهرجانات بيت الدين برفقة عازف الكلارينيت كنان العظمة والمغنية السورية رشا رزق، وقدموا فيها ليلة سورية بامتياز، فكان فيها الموسيقى الحديثة المعاصرة والموشحات والقدود، إضافة إلى وصلة غناء شعبي وديني وملحمي بكل اللغات الحية في سوريا.

دلالات
المساهمون