إبراهيم الحيسن يتتبع خرائط الفن المعاصر وتحوّلاته

13 يونيو 2015
تجهيز "نحن"، بثينة علي / سورية
+ الخط -

يستمدّ كتاب الناقد المغربي إبراهيم الحيْسن، "الفن التشكيلي المعاصر: خرائط الفن وتحوّلاته"، أهميته من كونه من المصادر العربية القليلة التي تضع قراءة بانورامية لما وصل إليه الفن خلال النصف الثاني من القرن العشرين.

ويراهن المؤلَّف، الصادر حديثاً عن "اتحاد الفنانين التشكيليين" جنوب المغرب، على إقامة جسور معرفية بين اقتراحات جمالية شهدتها مدوّنة التشكيل خلال هذه الفترة، وعبر تصوّر فاحص ومتأمل، يسائل طموحها الجمالي وإبدالاتها الفنية.

ينطلق الباحث من مفهوم "المعاصرة" ومعنى "الفن المعاصر" لوضعهما في سياقهما التاريخي العام. ويستحضر عدداً من التعريفات الغربية ومن بينها تعريف الناقدة كاترين مييه، التي ترى أن تعبير "معاصر" صفة أُسبغت على كل الإنتاج الفني الذي قد لا يكون "حديثاً" بالضرورة.

ويخلص إلى أن مفهوم "الفن المعاصر" يستعير عناصره ومفرداته من مجموعة من المدارس والتيارات الفنية التي يسميها كثيرون "فنون ما بعد الحداثة"، ومن أهمها "الدادائية الجديدة" و"فن البيئة" و"الفن المفاهيمي" و"فن الحدث" و"التجهيز"، إضافة إلى فنون الميديا المختلفة.

كما يذهب الباحث - في أقسام الكتاب الأربعة - إلى قراءة واصفة لاتجاهات باتت تلقي بظلالها على خريطة الفن التشكيلي المعاصر، وهي: التجهيز والإنشاء (الأنستليشن) وفنون الجسد.

وفيما يتعلّق بالتجهيز، يقوم الحيسن برسم خرائط مصطلح "فن التجهيز"، الذي يعني التركيب في فراغ شبيه بفراغ فن العمارة، باعتبار العمارة هي موسيقى الفراغ التي يؤلّفها المصمّم من خلال أسس وعناصر بناء العمل الفني بهدف تحقيق قيم تصميمية ذات صفات جمالية خاصة.

ظهر التجهيز كخلاصة وهيكلة لمجموعة من التيارات والمدارس الفنية، لا سيما تلك التي قادها فنانون متمردون مثل مارسيل دوشامب وجوزيف بويز وغيرهما، ممن جعلوا من الفوضى وسيلة للإبداع والتشكيل. يتيح فن التجهيز للفنان حرية أن يكون صانع مصائر لا تحتكم إلى تقنية بعينها ولا تتقيّد بإمكانات مادة دون سواها.

وفي ما يتعلّق بفن الإنشاء أو الإرساءات والمنشآت الفنية، يرى الباحث أنه يعدّ امتداداً طبيعياً لتطوّر الفنون التشكيلية في أوروبا، وقد بدأ مع الحركة الدادائية ورائدها دوشامب بعد عرض مبولته الشهيرة (Fontaine) سنة 1917، وشكّلت لحظة انقلابية على القيم الفنية التقليدية الأوروبية وعلى الأذواق البورجوازية.

من هنا اكتسب هذا الفن مميزاته، فهو ليس مجرد تركيب أسلاك ومكعبات ومسامير وكراتين، ثم تجميعها داخل ركن أو فضاء معين، بينما تتعاقب عليه الإضاءة وفق نظام أو هندسة معينة، وإنما هو إبداع تشكيلي جديد متحوّل وقائم بذاته، أساسه كتفكير جمالي يعتمد التأمّل في المادة والسند وإدراك التحوّلات البصرية الناتجة عن تركيبهما في الفضاء.

تمكّن فن المنشأة من توسيع المدرك البصري والسمعي، من خلال ما أبدعه فنانون عالميون من عروض أدائية وإنجازات جمالية مفتوحة على كل الوسائط والأسناد التعبيرية ومن بينها الجسد الآدمي.

أما فنون الجسد، التي نشأت في نهاية الستينيات من القرن العشرين، وازدهرت خلال العقود اللاحقة في أوروبا والولايات المتحدة، فيشير الباحث إلى أنها برزت كمحاولة للاحتفال إبداعياً بالجسد وجعله مكوناً تكميلياً للعمل الفني.

وفي هذا الإطار، يستحضر التعريف الذي ساقه الباحث الفرنسي فرانسوا بلوشار لهذا النوع من الفن، إذ يعتبره ممارسات متنوّعة تستخدم الجسد كحامل بلاستيكي، وغالباً ما تستعين بالفوتوغرافيا كوسيط.

يذكّر الحيسن ببعض الأصول التاريخية المتأخرة التي يتكئ عليها فن الجسد، من خلال الاستشهاد بلوحتي الفنان الفرنسي إدوار مانيه الشهيرتين "أولمبيا" و"غداء على العشب"، اللتين تعامل فيهما الفنان مع الجسد العاري بغير قليل من الجرأة والفنية.

وفي السياق نفسه، تحضر كذلك لوحة أوغست رونوار "المستحمّات" التي رأى الفنان في عري شخوصها شكلاً من أشكال الفن الضرورية.

وإلى ذلك يَعتبر الباحث حضور الجسد في التشكيل المعاصر علامة على نضج في الفكر، ذلك أنه يحضر بشكل متعدد، لكنه يبقى مرتبطاً وخاضعاً للفكر. فهو – حسب بول فاليري – لا يحيل على حزمة من الوظائف، وإنما هو تشابك للرؤية والحركة. فالفكر هو الذي يشتغل وهو الذي يقود الرؤية إلى العين.

ينتقل الباحث للحديث عن استطيقا الجسد العاري، من خلال استحضار تجربة فناني الـ "بوب آرت"، الذين راهنوا في تقديم مقترحهم الجمالي على ما يتيحه الجسد العاري لشخصيات فنية معروفة (أيقونة مارلين مونرو مثلاً) في علاقته بمغلفات البضائع والسلع.

كما يتطرق إلى اتخاذ الجسد العاري كأداة تصويرية من خلال طلائه بالصباغة أو الرسم فوقه، كما اشتهرت بذلك حركة "السلام والحب" أو "البوب ميوزيك" أو "الهارد روك"، أو غيرها من الموجات الفنية التي كانت تنشط في مهرجانات خاصة.

المساهمون